لا تتمنّوا لقاء العدو، وإذا لقيتُموهم فاصبروا
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
كَتَبَ إلَيْهِ عبدُ اللَّهِ بنُ أبِي أوْفَى حِينَ خَرَجَ إلى الحَرُورِيَّةِ، فَقَرَأْتُهُ، فَإِذَا فِيهِ: إنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في بَعْضِ أيَّامِهِ الَّتي لَقِيَ فِيهَا العَدُوَّ، انْتَظَرَ حتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَامَ في النَّاسِ فَقَالَ: أيُّها النَّاسُ، لا تَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وسَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، واعْلَمُوا أنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، ومُجْرِيَ السَّحَابِ، وهَازِمَ الأحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وانْصُرْنَا عليهم. "(البخاري ومسلم وأبوداود والحاكم جميعهم باختلاف يسير).
وروي البيهقي، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وسعيد بن منصور بلفظ: "لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموه فاثبتوا، وأكثروا ذكر الله، فإن أجلبوا وصيَّحوا، فعليكم بالصمت" هذه رواية سعيد بن منصور. ورواه الباقون بنفس اللفظ على اختلاف يسير بينهم، والحديث أصله في الصحيحين من رواية عبد الله بن أبي أوفى بلفظ: لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا. .
وفي هذا الحَديثِ
قَامَ رسول الله صلي الله عليه وسلم في النَّاسِ المُحارِبينَ معه، فخَطَبَ فيهم فقال:
" أيُّها النَّاسُ، لا تَمَنَّوْا لِقاءَ العَدُوِّ"، وهذا النَّهيُ لِأنَّ المَرءَ لا يَعلَمُ ما يَنتَهي إليه أمْرُه، ولا كيف يَنجُو منه، ولِأنَّ الناسَ مُختَلِفونَ في الصَّبْرِ على البَلاءِ، ولِأنَّ العافيةَ والسَّلامةَ لا يَعدِلُها شَيءٌ. فالعَافِيةُ نِعمةٌ مِنَ النِّعَمِ التي يَنبَغي على المَرءِ أنْ يُدَاوِمَ على سُؤالِ المَوْلَى سُبحانَه وتَعالى إيَّاها.
وأيضًا نَهَى صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن تَمَنِّي لِقاءِ العَدُوِّ؛ لِمَا فيه مِن صُورةِ الإعجابِ بالنَّفْسِ، والاتِّكالِ عليها، والوُثوقِ بأسبابِ القُوَّةِ، ولِأنَّه يَتضَمَّنُ قِلَّةَ الاهتِمامِ بالعَدُوِّ واحتِقارَه، وهذا يُخالِفُ الاحتياطَ والحَزمَ،
وكان هذا أسلوب اليهود قالها حيي بن أخطب بعد غزوة بدر
وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم قد وادع حين قدم المدينة يهودها على أن لا يعينوا عليه أحدا ، وأنه إذا دهمه بها عدو نصروه . فلما كان يوم بدر كان بنو قينقاع أول يهود نقضوا العهد ، وأظهروا البغي والحسد ، وقطعوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد ، فجمعهم بسوق بني قينقاع وقال :"يا معشر يهود أسلموا ، فوالله إنكم لتعلمون أني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة فأسلموا ، فإنكم قد عرفتم أني مرسل ، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم "(سيرةابن اسحاق).
قالوا : يا محمد إنك ترى أنا مثل قومك
، لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب ، فأصبت منهم فرصة ، إنا والله لئن
حاربتنا لتعلمن أنا نحن الناس .
"وسَلُوا اللهَ العافيةَ"،
والعافيةُ مِنَ الألفاظِ العامَّةِ المُتناوِلةِ لِدَفْعِ جَميعِ المَكروهاتِ في البَدَنِ والمالِ والأهلِ والدُّنيا والآخِرةِ، وخُصَّتْ بالدُّعاءِ في هذا المَقامِ؛ لِأنَّ الحَربَ مَجالُ الإصاباتِ والابتِلاءِ،
ثمَّ قال لهم:
"فإذا لَقيتُموهم فاصْبِروا" فالصَّبرُ في القِتالِ والحَربِ فَرضٌ على المُسلِمِ ما دام ذلك في قُدرَتِه وطاقَتِه، وإنَّما يَأتي النَّصرُ لِمَن صَبَرَ أكثَرَ، وإنما النصر صبر ساعة
"واعلَموا أنَّ الجَنَّةَ تَحتَ ظِلالِ السُّيوفِ"، أي: أنَّ لِقاءَ العَدُوِّ والنِّزَالَ بالسُّيوفِ مِنَ الأسبابِ المُوجِبةِ لِلجَنَّةِ،
ثمَّ سَأَلَ اللهَ تعالَى النَّصرَ، فقال:
"اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتابِ"، وهو القُرآنُ،
"ومُجْريَ السَّحابِ" بالأمطارِ والصَّواعِقِ ونَحوِها،
"وهازِمَ الأحزابِ" وهُمُ الأحزابُ الذين اجتَمَعوا عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في غَزوةِ الخَندَقِ (الأحزابِ)، فهَزَمَهمُ اللهُ بالرِّيحِ العاصِفةِ مِن دُونِ قِتالٍ،
"اهْزِمْهم وانصُرْنا عليهم".وهو يُشيرُ بإنزالِ الكِتابِ إلى قَولِه تعالَى:"قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ"(التوبة: 14) ،
ويُشيرُ بـ"مُجريَ السَّحابِ" إلى القُدرةِ الظَّاهِرةِ في تَسخيرِ السَّحابِ، حيث
يُحرِّكُ الرِّيحُ السَّحابَ بمَشيئةِ اللهِ، وحيث يَستَمِرُّ في مَكانِه مع
هُبوبِ الرِّيحِ بمَشيئةِ اللهِ، وحيث يُمطِرُ السَّحابُ تارةً، ولا يُمطِرُ
أُخرى، فأشارَ بحَرَكَتِه إلى إعانةِ المُجاهِدينَ في حَرَكَتِهم في القِتالِ،
وبوُقوفِه إلى إمساكِ أيدي الكُفَّارِ عنهم، وبإنزالِ المَطَرِ إلى غَنيمةِ ما
معهم، حيث يَكونُ قَتْلُهم، وبعَدَمِه إلى هَزيمَتِهم، حيث لا يَحصُلُ الظَّفَرُ
بشَيءٍ منهم، وكُلُّها أحوالٌ صالِحةٌ لِلمُسلِمينَ، وأشارَ بـ«هازِمَ الأحزابِ»
إلى التَّوسُّلِ بالنِّعمةِ السَّابِقةِ في غَزوةِ الأحزابِ، وإلى تَجريدِ
التَّوكُّلِ واعتِقادِ أنَّ اللهَ هو المُنفَرِدُ بالفِعلِ.
وفي الحَديثِ:
النَّهيُ عن تَمَنِّي
لِقاءِ العَدُوِّ، وهذا غَيرُ تَمَنِّي الشَّهادةِ.
وفيه: أنَّ الإنسانَ إذا لَقيَ
العَدُوَّ فإنَّ الواجِبَ عليه أنْ يَصبِرَ.
وفيه: الدُّعاءُ على المُشرِكينَ بالهَزيمةِ والزَّلزَلةِ.
حمله العلماءُ على أنَّ المراد: على سبيل العجب بالنَّفس، على سبيل الثِّقة بالنفس، ونحو ذلك.
أما إذا تمنى لقاء العدو؛ رغبةً في الجهاد، أو رغبةً في الشَّهادة في سبيل الله، فهو يبدأ بالجهاد؛ لأنَّ الرسول حثَّ على الجهاد ورغَّب فيه: مَن مات ولم يغزُ، ولم يُحدِّث نفسه بالغزو؛ مات على شُعبةٍ من النِّفاق.
قال العلامة المناوي في شرح الحديث: لا تتمنوا لقاء العدو، لما فيه من صورة الإعجاب، والوثوق بالقوة، وقلة الاهتمام به، وهو مخالف للاحتياط، ولأنهم قد ينصرون استدراجًا، ولأن لقاء العدو من أشد الأشياء على النفس، والأمور الغائبة ليست كالمحققة، فلا يؤمن أن يكون عند الوقوع على خلاف المطلوب، وتمني الشهادة لا تستلزم تمني اللقاء، وأخذ منه النهي عن طلب المبارزة، ومن ثمَّ قال علي -كرم الله وجهه- لابنه: لا تدع أحدًا إلى المبارزة، ومن دعاك لها، فاخرج إليه؛ لأنه باغٍ، وقد ضمن الله نصر من بُغِي عليه. اهـنعم، الآية الكريمة "كُلَّمَا
أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ" تعني أن الله تعالى هو
الذي يبطل مكرهم ويخيب سعيهم في إشعال الفتن والحروب. فكلما حاولوا إثارة الشر
والنزاع، يبطل الله مفعولهم ويرد كيدهم عليهم.
وقد يقول قائل :"ولما لم يطفأها الأن ؟
ونقول له حينما نكون مؤمنين عباداً لله يطفأها الله لأن الله تعالى هو الذي يدفع الشر ويحبط كيد المفسدين، وأن سعيهم في الأرض بالفساد لن ينجح وفقا لتفسير ابن كثير. فالآية تتضمن معنىً إلهياً بأن الله تعالى هو من يبطل مكرهم ويرد كيدهم. عن المؤمنين :" فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ"(الرُّوم:47).
وكلما فعلوا ذلك أفسد الله عليهم خطتهم، وأحبط مكرهم، وألقى الرعب في قلوبهم وكلما أبرموا أمورا يحاربونك بها يبطلها الله ويرد كيدهم عليهم ، ويحيق مكرهم السيئ بهم . " ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين " أي : من سجيتهم أنهم دائما يسعون في الإفساد في الأرض ، والله لا يحب من هذه صفته..