
اتَّقِ المحارمَ تَكُنْ أعْبَدَ النَّاس
وارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس
وأحْسِنْ إلى جارك تكن مؤمنًا
وأحِبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا
ولا تُكْثِر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه وخليله، أما بعد:
فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعملَ بهن أو يُعلِّمهن من يعمل بهن؟ قال: قلت: أنا يا رسول الله، قال: فأخذ بيدي فعَدَّ فيها خمسًا، وقال: اتَّقِ المحارمَ تَكُنْ أعْبَدَ النَّاس، وارضَ بما قسم الله لك تَكُنْ أغنى الناس، وأحْسِنْ إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا، ولا تُكْثِر الضَّحِكَ؛ فإن كثرة الضحك تُميت القلب"، هذا الحديث من جوامع كَلِمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تضمَّن خمس وصايا هي من أعظم ما يوصي به مسلمٌ أخاه، مما يتميز به ديننا، ويُسجَّل من محاسنه الجليلة.
اتَّقِ المحارمَ تَكُنْ أعْبَدَ النَّاس
أولى هذه الوصايا: الأمر باتَّقِاء المحارم، والمحارم هي المحرَّمات التي حرمها الله تعالى، والكبائر التي نهى عنها الإسلام، وجاء ذِكْرُها في كتاب الله تعالى، وفي سنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ من مثل قول الله تعالى من سورة الأعراف:" قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ "(الأعراف: 33)، ومعنى
؛ أي: مِن أعبدهم؛ لأن المسلم مُطالَب باتَّقِاء المحارم، ومطالب كذلك بفعل الفرائض؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به، فافعلوا منه ما استطعتم"، ولأن الله تعالى يَغارُ إذا انتُهكت حرماته؛ في الصحيحين:"إن الله يغارُ، وغَيرةُ الله أن يأتي المؤمن ما حرَّم الله عليه"
، فقد عظَّم من شأن هذه الحرمات، وجعل اتِّقاءها واجتنابها خيرًا عظيمًا؛ قال تعالى: " ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ "(الحج: 30)؛ قال ابن كثير رحمه الله: "أي: ومن يجتنب معاصيه ومحارمه، ويكون ارتكابها عظيمًا في نفسه، ﴿ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ"(الحج: 30)؛ أي: فله على ذلك خير كثير، وثواب جزيل، فكما يجزيه على فِعْلِ الطاعات ثوابًا كثيرًا، وأجرًا جزيلًا، كذلك على ترك المحرمات واجتناب المحظورات"، قال الحسن: "ما عبد العابدون بشيء أفضل من ترك ما نهاهم الله عنه"، وقال عمر بن عبدالعزيز: "ليست التقوى قيامَ الليل وصيام النهار، والتخليط فيما بين ذلك، ولكن التقوى أداءُ ما افترض الله، وتَرْكُ ما حرَّم الله، فإن كان مع ذلك عملٌ فهو خير إلى خير"، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن التفاني في العبادة وفعل الطاعات لا ينفع صاحبه، إذا كان يعتدي على حرمات الله، فيستسهل المعاصي، ويركب المنكرات؛
روى الإمام ابن ماجه في سننه عَنْ ثَوْبَانَ: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا, قَالَ ثَوْبَانُ: يَارَسُولَ اللهِ! صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا؛ أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا"(ابن ماجة في سننه).
يخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
عن أناس من أمته، لهم أعمال طيبة وحسنات متكاثرة، وصلوات وصدقات وقربات وأعمال بر
صالحات وكثيرات.. حتى إنهم ليقومون الليل يصلون لله تعالى مما يدل على اجتهادهم في
التعبد.. وأنهم قد جمعوا من عباداتهم وطاعاتهم أجورا كثيرة، وحسنات بلغت مبلغا
عظيما حتى صارت كالجبال من كثرتها... ولكن.
أخبر صلوات الله وسلامه عليه أنهم إذا جاءوا يوم القيامة جعل الله هذه الحسنات هباءً منثورا.. ثم بيَّن عليه الصلاة والسلام السبب في حبوط هذه الأعمال أو ذهاب ثوابها وضياع أجورها فقال: كانوا "إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها".
ومحارم الله: كل ما نهى الله عنه نهي
تحريم.
ومعنى انتهاك الحرمات هو: تناولها بما
لا يحلّ، والمبالغة في خرق محارم الشّرع وإتيانها. . كسرقة، وغش، وخداع، ورشوة،
وشرب مخدرات، أو شرب مسكرات، وفعل الفاحشة، ونظر إلى ما حرم الله من الصور العارية
والأفلام الهابطة القذرة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)، يدل على أنها عادة لهم، وأنهم كانوا يفعلون ذلك دائما. فيعتدون على حرمات الله في السر، ولا يحفظون حقوق الله، فهؤلاء سيئاتهم تذهب حسناتهم.
يجعلها الله هباء منثورا
وأما حبوط الأعمال وذهاب ثوابها فقد
قال بعض أهل العلم:
- إن الحديث إنما هو في أقوام عندهم نوع
من النفاق فهم يصلون ويصومون، ولكن الذي أفسد أعمالهم هو النفاق ومرض القلب، فقد
روى أبو نعيم في حلية الأولياء عن مالك بن دينار أن هذا الحديث في المنافقين قال:
هو والله النفاق.. فأخذ المعلى بن زياد بلحيته فقال: صدقت والله أبا يحيى.
أي أنهم قوم منافقون فجَّار ماكرون، فهم أمام الناس من المصلين المحافظين، أما إذا غابوا عن الناس فجروا ومكروا فلم يرعوا لله وقارا، ولم يستحوا من ربهم في الوقوع في المحرمات وانتهاك الأعراض من السب والغيبة والنميمة، والظلم، والتعدي، على حقوق الآخرين، وغيره من الفواحش والمنكرات والمحرمات، فهم كما قال تعالى: "يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً"(النساء:108).
- وقال بعضهم: إنما ورد الحديث في أقوام يراءون الناس بأعمالهم، كما في الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار، فإن الرياء محبط للعمل الذي أريد به غير وجه الله وليس لكل الأعمال، ولكن لما كان أكثر عملهم رياء، والله لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، رد عليهم ما راءوا به الخلق وجعله هباء منثورا. فالله سبحانه وتعالى أكرم وأعدل من أن يحبط عمل أحد دون سبب، وأن يضيع أجر من أحسن عملاً، {إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}[النساء:40]، وإنما رد أعمالهم لأنها رياء، وفي الحديث القدسي:"أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"( مسلم]، وفي رواية ابن ماجه:"فأنا منه بريء وهو للذي أشرك".
- قال ابن رجب: "وقد يكون له سيئات
تحبط بعض أعماله وأعمال جوارحه سوى التوحيد فيدخل النار.
وفي "سنن ابن ماجه" من رواية
ثوبان مرفوعًا: "إنَّ مِنْ أمتي من يجيء بأعمال أمثال الجبال فيجعلها الله
هباءً منثورًا".
وفيه: "هم قومٌ من جلدتكم ويتكلمون بألسنتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها"
وهذا الحديث فيه تحذير شديد لمن لا
يبالي بالوقوع في المحرمات متى خلا بها، ولا يقيم وزنا لرقابة الله واطلاعه عليه
فهذا قد جعل الله سبحانه أهون الناظرين إليه، فلم يراقب ربه، ولم يخش خالقه، كما
راقب الناس وخشيهم.
والذي يداوم على العصيان في الخلوة
ويبارز الله بالمبالغة في إتيان الحرام "لم يقدّر الله حقّ قدره بل هان عليه
أمره فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقّه فضيّعه، وذكره فأهمله، وغفل قلبه عنه، وكان هواه
آثر عنده من طلب رضا الله، وطاعة المخلوق أهمّ من طاعته. فهو يستخفّ بنظر الله
إليه، واطّلاعه عليه، وهو في قبضته، وناصيته بيده، ويعظّم نظر المخلوق إليه
واطّلاعه عليه بكلّ قلبه وجوارحه يستحيي من النّاس ولا يستحيي من الله".
وفي فعلهم هذا أيضا ما يدل على أن معرفتهم بالله مغلوطة، ولو عرفوا الله حق المعرفة لعلموا أنه مطلع عليهم عالم بما يفعلون يسمع ما يقولون ويرى ما يفعلون ولا يغيب عنه شيء مما يعملون، ف{إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء}، {وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير}. وفيه دليل على قلة حيائهم منه سبحانه وتعالى.
ثم هو أيضا دلالة على قلة محبة الله في
قلوبهم؛ فإن من أعظم علامات المحبة الموافقة للمحبوب فيما يحب ويكره، والطاعة له
فيما يأمر وينهى. فكما قالوا: إنما المحبة الطاعة.
تعصى الإله وأنت تظهر حبه .. هذا محال
في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطــعته .. إن المحب لمن يحب مطيع
فهذا كله مما يقلل قدر الحسنات، ويجعلها لا تقاوم السيئات عند الموازنة والمحاصصة، فيهلك صاحبها، ولا ينتفع بثواب ما عمل انتفاع المؤمنين المخلصين.
أما ارتكاب المعاصي في الخلوات أحيانا، وضعف النفس أمام شيء من الشهوات والمحرمات، من غير مداومة عليها، ولا إصرار على إتيانها، فلا يكاد يسلم منه أحد، إلاّ من عصمه الله، فمن كان هذا حاله فعليه بالإسراع بالتوبة وإتباع السيئة الحسنة ومثل هذا فيرجى ألا يكون داخلاً في ذلك الوعيد.
وعموما فالحديث فيه تخويف شديد من الوقوع في المنكرات، والاستهانة بذنوب الخلوات، وعدم الاغترار بالأعمال، والتساهل في اللمم والذنوب الصغيرات، فإنهن يجتمعن على العبد حتى يهلكنه.. نسأل الله أن يعاملنا جميعا بلطفه وفضله.
وابتُلي سيدنا يوسف عليه السلام بامرأة اجتمعت فيها جميع المغريات، حتى إنها غلقت الأبواب، وقالت:"هَيْتَ لَكَ "(يوسف: 23)، أو هِئْتُ لك؛ أي: تهيأت لك، ومع ذلك قال:" مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾ [يوسف: 23]، ثم تحمَّل سبع سنين من السجن على ألَّا يقع في المعصية؛ قال ابن الجوزي رحمه الله بعدما ذكر القصة: "هنا تكون العبودية لله".
وارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس
، كن قنوعًا بما وهب الله تعالى لك، ولا تنظر إلى ما في أيدي الناس، وانظر إلى من هو أقل منك مالًا وولدًا، ولا تحمل همَّ الرزق؛ فالله تعالى تكفَّل لك به، وخزائنه ملآى لا تنفَدُ، فلا تشغل بالك بما ضُمِن لك من الرزق
والله والله أيمان مكررة
ثلاثة عن يمن بعد ثانيها
لو أن في صخرة صماء ململمة
في البحر راسية مُلْسٌ نواحيها
رزقًا لعبدٍ يراه الله لانْفَلَقَت
حتى تؤدي إليه كل ما فيها
أو كان بين طباق السبع مسلكها
لسهَّل الله في المرقى مراقيها
حتى ينال الذي في اللوح خُطَّ له
فإن أتَتْهُ وإلا سوف يأتيها
فما دام الأجل باقيًا، كان الرزق آتيًا، ولا تحزن إذا صرف الله تعالى عنك الدنيا، ربما صرفها عنك لتنجو، وربما زوى عنك من متاع الدنيا حتى يسهل لك الحساب يوم القيامة، وربما لو أغناك لَبغَيتَ وتجبَّرتَ؛ "وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ "(الشورى: 27)؛
قال ابن مسعود: "إن العبد لَيهُمُّ بالأمر من التجارة والإمارة حتى ييسر له، فينظر الله إليه فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإني إن يسَّرته له أدخلته النار، فيصرفه الله عنه، فيظل يتطير يقول: سبقني فلان، حسدني فلان، دهاني فلان، وما هو إلا فضل الله عز وجل"(أثرصحيح ).
وقد جاء هذا الأثر بالفاظ مختلفة من غير رواية عبد الله بن مسعود, ففي تخريج أحاديث إحياء علوم الدين: (في الخبر: إن العبد ليهم من الليل بأمر من أمور) الدنيا من (التجارة) وغيرها (مما لو فعله لكان فيه هلاكه، فينظر الله تعالى إليه من فوق عرشه فيصرفه عنه، فيصبح كئيباً حزيناً فيظن) وفي نسخة يتطير (بجاره وابن عمه من سبقني من دهاني، وما هي إلا رحمة رحمه الله بها) هكذا هو في القوت
والمعنى العام لهذا الأثر: أن اختيار الله تعالى خير من اختيار العبد لنفسه، فقد يتمنى الشخص مهنة معينة كالتجارة أو نحوها، فيصرفها الله تعالى عنه؛ لما في سابق علم الله تعالى أن هذه المهنة ستكون سببًا في شقاء هذا الشخص أو هلاكه
فإن من قنع بما قُسِمَ له، ولم يطمع فيما في أيدي الناس، استغنى عنهم؛ قال صلى الله عليه وسلم:"ليس الغِنى عن كثرة العَرَضِ - والعَرَضُ هو ما يُنتفَع به من متاع الدنيا - ولكن الغِنى غِنى النفس"؛ (البخاري ومسلم)،
وقال صلوات الله تعالى عليه:"قد أفلح من أسلم،
ورُزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه"( مسلم).
، وعند البيهقي بسند صحيح :"أن رجلًا قال: يا رسول الله، دُلَّني على عمل إذا عمِلت به دخلت الجنة؟ فقال: كن محسنًا، فقال: يا رسول الله، كيف أعلم أني محسن؟ قال: سَلْ جيرانك، فإن قالوا إنك محسن، فأنت محسن، أو قالوا إنك مسيء، فأنت مسيء"
فخيرُ الناس منزلةً عند الله خيرهم لجاره، لقد وقف جبريلُ مُمسكًا بثياب النبي صلى الله عليه وسلم موصيًا إياه بالجار على اختلاف ديانته، حتى ظن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سيجعل للجار نصيبًا من الميراث، وعظَّم النبي حرمة الجار؛ في مسند الإمام أحمد بسند صححه الألباني عن المقداد بن الأسود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((ما تقولون في الزنا؟ قالوا: حرَّمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: لَأن يزنيَ الرجل بعشرة نسوة أيسرُ عليه من أن يزني بامرأة جاره، قال: فقال: ما تقولون في السرقة؟ قالوا: حرمها الله ورسوله، فهي حرام، قال: لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسرُ عليه من أن يسرق من جاره))، إن أذى الجار يُحبِط الأعمال، ويمحو الحسنات؛ صحح الألباني أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((إن أذى الجار يمحو الحسنات، كما تمحو الشمسُ الجليدَ))، ومعنى ذلك أن الرجل إذا حصَّل كثيرًا من الحسنات، ثم أذى جاره، فقد حبِط عمله وفَنِيَت حسناته، كان أبو حنيفة يأتي بعد صلاة العشاء يريد أن يسبح الله، ويصلي ويبكي، ويدعو ويقرأ القرآن، لكن هذا الجار عزوبي ليس عنده إلا طبل يضرب عليه ويرقص، فكان أبو حنيفة لا يستطيع أن ينام، ولا يستطيع أن يقرأ، ولا أن يصلي، فيصبر ويحتسب، وفي ليلة من الليالي الطويلة ما سمع أبو حنيفة الصوتَ، انتظر، هل يسمع صوتًا؟ ما سمع الرقص، ولا سمع ضرب الطبل، ولا سمع الدربكة، فعجب، طرق باب الدار فما أجابه أحد، سأل الجيران: أين فلان؟ قالوا: أخذته شرطة السلطان، قال: سبحان الله! جاري يأخذونه ولا يخبرونني، ثم ذهب في الليل فركب بغلته، ولبس ثيابه، فاستأذن على السلطان وسط الليل، قال الجنود للسلطان: أبو حنيفة إمام الدنيا يريد مقابلتك، فقام السلطان من نومه والتقى به عند الباب يعانقه، قال له: يا أبا حنيفة، لماذا ما أرسلت إلينا؟ نحن نأتيك لا أن تأتينا، قال: كيف أخذتم جاري وما أخبرتموني به؟ قالوا: إنه فعل وفعل وفعل، قال: ردُّوا عليَّ جاري، قالوا: لو طلبت الدنيا لأعطيناك الدنيا، فركب جاره معه على البغلة، وأخذ جاره يبكي، قال أبو حنيفة: ما لك؟ قال: آذيتك كل هذه الأيام والأعوام والسنوات، وما تركتك تنام، ولا تصلي ولا تقرأ، ولما فقدتني ليلة أتيتَ تتشفع فيَّ، أُشْهِد الله ثم أُشهدك أنني تائب إلى الله.
في شعب الإيمان بسند صحيح عن أبي هريرة، قال: ((قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار، وتفعل، وتصدَّق، وتؤذي جيرانها بلسانها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا خير فيها، هي من أهل النار، قيل: وفلانة تصلي المكتوبة، وتصدق بالأثوار من الأقِطِ - اللبن المجفف - ولا تؤذي أحدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي من أهل الجنة"، وفي مسند أحمد :"إن ممن يحبهم الله عز وجل رجلًا كان له جار سوء يؤذيه، فصبر على أذاه حتى يكفيه الله إياه بحياة أو موت".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد:
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
وأحِبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا
، فلا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه؛ جاء ضيف إلى النبي فقال: "من يضيِّف هذا الليلةَ رحمه الله؟ فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيء، قالت: لا إلا قوت صبياني، قال: فعلِّليهم بشيء، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأرِيه أنَّا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تُطفئيه، قال: فقعدوا وأكل الضيف، فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد عجِب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة؛ فنزلت هذه الآية: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ "(الحشر: 9)؛ قال ابن كثير: "أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك".
ولا تُكْثِر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب
في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا أمة محمدٍ، والله لو تعلمون ما أعلم، لَبَكَيتم كثيرًا، ولضحكتم قليلًا"،
قال ابن عباس: "من أذنب ذنبًا وهو يضحك، دخل النار وهو يبكي"، ومرَّ الحسن البصري بشاب وهو مستغرق في ضحكه، وهو جالس مع قوم في مجلس، فقال له الحسن: يا فتى، هل مررت بالصراط؟ قال: لا، قال: فهل تدري إلى الجنة تصير أم إلى النار؟ قال: لا، قال: فما هذا الضحك؟ فما رُؤيَ الفتى بعدها ضاحكًا.
ينبغي على المسلم ألَّا يُكْثِر من الضحك المزاح ولا يداوم عليه؛ لأنَّ كثرة المزاح تُميت القلب، وتُسقط الوقار، وتُشغل عن ذكر الله؛ جاء في "سنن الترمذي" و"ابن ماجه" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «لَا تُكْثِرُوا الضَّحِكَ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ"؛ قال الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين" (3/ 128، ط. دار المعرفة):
اعلم أن المنهي عنه؛ الإفراط فيه أو المداومة عليه، أما المداومة؛ فلأنَّه اشتغال باللعب والهزل فيه، واللعب مباح ولكن المواظبة عليه مذمومة، وَأَمَّا الْإِفْرَاطُ فِيه؛ فإنَّه يُورِثُ كَثْرَةَ الضَّحك، وكثرة الضحك تميت القلب، وتورث الضغينة في بعض الأحوال، وتسقط المهابة والوقار، فما يَخْلُو عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فَلَا يُذَمُّ اهـ.
وقال الشيخ العدوي في "حاشيته على شرح كفاية الطالب الرباني" (2/ 415، ط. دار الفكر): [(ومن الفرائض: صون اللسان عن الباطل كله.. ومنه كثرة المزاح)؛ أي ومن الباطل الذي صون اللسان عنه واجب كثرة المزاح، علَّله الأقفهسي بقوله: لأنّه يؤدي إلى رفع الهيبة والشر. وقال بعض الحكماء: لا تمازح الشريف فيحتقرك ولا الدنيء فيجترئ عليك إلى أن قال: ويستعان على ترك هذه الأشياء بالخلوة ومجانبة الناس] اهـ.
الاعتدال بين الجد والمزاح
ينبغي على الإنسان أن يوازن بين الجد والمزاح، ويكون المزاح في كلامه كالملح في الطعام إن عُدم أو زاد عن الحد فهو مذموم؛ فلكل مقام مقال؛ فقد أخرج البغوي في "شرح السنة" عن ثابت بن عبيد رضي الله عنه قال: "كَانَ زيد بْن ثَابت رضي الله عنه مِن أفكه النّاس فِي بَيته؛ فَإِذا خرج كَانَ رجلًا مِن الرِّجَال".
قال الإمام الماوردي في "أدب الدين والدنيا" (ص: 311، ط. دار مكتبة الحياة): [قال أبو الفتح البستي:
أَفْدِ طَبْعَك الْمَكْدُودَ بِالْجِدِّ رَاحَةً ... يُجَمُّ وَعَلِّلْهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَزْحِ
وَلَكِنْ إذَا أَعْطَيْتَهُ الْمَزْحَ فَلْيَكُنْ ... بِمِقْدَارِ مَا تُعْطِي الطَّعَامَ مِنْ الْمِلْحِ] اهـ.