الإيمان بقضاء الله تعالي وقدره
الحمدلله والصلاة والسلام علي رسول
الله وبعد
فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه
ونهاهم عن مرامه كما قال الله تعالى في كتابه : ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) [
الأنبياء : 23
].
فمن سأل لم فعل ؟ فقد رد حكم الكتاب ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين . ______ ( 1 ) قلت : وهذا التعمق هو المراد - والله أعلم - بقوله صلى الله عليه وسلم : . . . وإذا ذكر القدر فأمسكوا " . وهو حديث صحيح روي عن جمع من الصحابة وقد خرجته في " الصحيحة " ( 34 ) . ( 2 ) أي لكمال حكمته ورحمته وعدله لا لمجرد قهره وقدرته كما يقول جهم وأتباعه . كذا في " الشرح " وراجع فيه تحقيق أن مبنى العبودية والإيمان على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع فإنه مهم جدا لولا ضيق المجال لنقلته برمته لنفاسته وعزته .
وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى في " مجموع الفتاوى " ( 1 / 148 - 150 ) باختصار بعض الفقرات
: " والإيمان بالقدر على درجتين كل درجة تتضمن شيئين : فالدرجة الأولى : الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم الذي هو الذي هو موصوف به أزلا وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال . ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق " فأول ما خلق الله القلم قال له : أكتب قال : ما أكتب ؟ قال : أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه جفت الأقلام وطويت الصحف كما قال وتعالى :"أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۗ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَابٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ"( الحج : 70).
وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلا فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكا فيؤمر بأربع كلمات . أكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ونحو ذلك فهذا القدر ينكره غلاة القدرية قديما ومنكره اليوم قليل . وأما الدرجة الثانية : فهو مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه ما في السماوات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشية الله سبحانه لا يكون في ملكه إلا ما يريد وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات . ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله ونهاهم عن معصيته وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا يحب الكافرين ولا يرضى عن القوم الفاسقين ولا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد . والعباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلى والصائم وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم كما قال تعالى : ( لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) [ التكوير : 28 29 ] وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي مجوس هذه الأمة ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها . قلت : ويشير بكلامه الأخير إلى الأشاعرة فإنهم هم الذين غلوا وأنكروا الحكمة على ما فصله ابن القيم في " شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل " . فراجعه فإنه هام جدا .
كذا وقع هنا وهو بمعنى رواية " فقال له " . لكن الراجح عندي الرواية الأخرى بلفظ : " ثم قال له " كما كنت حققته في " تخريج شرح الطحاوية " ص 294 - 295 [ 464 - 265 من الطبعة التاسعة طبع المكتب الإسلامي ] . وله شاهد عن ابن عباس خرجته في الصحيحة ( 133 ) [ وقول الشيخ ناصر : " حققته " وهم فإن له التخريج فقط كما ذكر في غير هذا الكتاب وتابع الإصرار على ادعاء تحقيقه لشرح الطحاوية الكبير ] .
و عن أبي حفصة قال قال عبادة بن الصامت لابنه :يا بُنَيَّ، إنَّك لن تَجِدَ طَعمَ حقيقةِ الإيمانِ حتى تعلَمَ أنَّ ما أصابَك لم يكُنْ لِيُخْطِئَك، وما أخطَأَك لم يكُنْ لِيُصيبَك، سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: إنَّ أولَ ما خلق اللهُ القلمُ، فقال لهُ : اكتبْ، قال : ربِّ وماذا أكتبُ ؟ قال : اكتُبْ مقاديرَ كلِّ شيءٍ حتى تقومَ الساعةُ. يا بنيَّ إني سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقول : من مات على غيرِ هذا فليسَ مِني"(صحيح أبي داود ).
قال عبد الله بن مسعود حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق :إنه يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيقول اكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أم سعيد فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها "(ابن ماجة وصححه).
حدثنا يحيى بن موسى حدثنا أبو داود
الطيالسي حدثنا عبد الواحد بن سليم قال قدمت مكة فلقيت عطاء بن أبي رباح فقلت له
ياأبا محمد إن أهل البصرة يقولون في القدر قال يا بني أتقرأ القرآن قلت نعم قال
فاقرأ الزخرف قال فقرأت "حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون
وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم " فقال أتدري ما أم الكتاب قلت الله ورسوله
أعلم قال فإنه كتاب كتبه الله قبل أن يخلق السماوات وقبل أن يخلق الأرض فيه إن
فرعون من أهل النار وفيه" تبت يدا أبي لهب وتب " قال عطاء فلقيت الوليد بن عبادة
بن الصامت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته ما كان وصية أبيك عند الموت
قال دعاني أبي فقال لي يا بني اتق الله واعلم أنك لن تتقي الله حتى تؤمن بالله
وتؤمن بالقدر كله خيره وشره فإن مت على غير هذا دخلت النار إني سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول إن أول ما خلق الله القلم فقال اكتب فقال ما أكتب قال اكتب
القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد .(صحيح).
تفسير الطبري [ جزء 9 -
صفحة 186
]
ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء
والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير
(70)
يقول تعالى ذكره : ألم تعلم يا محمد أن
الله يعلم كل ما في السماوات السبع و الأرضين السبع لا يخفى عليه من ذلك شيء وهو
حاكم بين خلقه يوم القيامة على علم منه بجميع ما عملوه في الدنيا فمجازي المحسن
منهم بإحسانه و المسيء بإساءته إن ذلك في كتاب : يقول تعالى ذكره : إن علمه بذلك
في كتاب و هو أم الكتاب الذي كتب فيه ربنا جل ثناؤه قبل أن يخلق خلقه و ما هو كائن
إلى يوم القيامة { إن ذلك على الله يسير }
كما حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال
: ثنا ميسر بن إسماعيل الحلبي عن الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة قال : علم الله ما
هو خالق وما الخلق عاملون ثم كتبه ثم قال لنبيه { ألم تعلم أن الله يعلم ما في
السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير }
عن أرطأة بن المنذر قال : سمعت ضمرة بن
حبيب يقول : إن الله كان على عرشه على الماء و خلق السماوات و الأرض بالحق و خلق
القلم فكتب به ما هو كائن من خلقه ثم إن ذلك الكتاب سبح الله و مجهد ألف عام قبل
أن يبدأ شيئا من الخلق.
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال :
ثني معتمر بن سليمان عن أبيه عن سيار عن ابن عباس أنه سأل كعب الأحبار عن أم
الكتاب فقال : علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون فقال لعلمه كن كتابا
و كان ابن جريج يقول في قوله : إن ذلك
في كتاب ما
:
حدثنا به القاسم قال : ثني حجاج عن ابن
جريج { إن ذلك في كتاب } قال قوله : { الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه
تختلفون
}
و إنما اخترنا القول الذي قلنا في ذلك
لأن قوله : { إن ذلك } إلى قوله : { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء و الأرض }
أقرب منه إلى قوله : { الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون } فكان
إلحاق ذلك بما هو أقرب إليه أولى منه بما بعد
و قوله : { إن ذلك على الله يسير }
اختلف في ذلك فقال بعضهم : معناه إن الحكم بين المختلفين في الدنيا يوم القيامة
على الله يسير
ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم قال :
ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج : { إن ذلك على الله يسير } قال : حكمه يوم
القيامة ثم قال بين ذلك : { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء و الأرض إن ذلك في
كتاب
}
و قال آخرون : بل معنى ذلك : أن كتاب
القلم الذي أمره الله أن يكتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن على الله يسير يعني هين
و هذا القول الثاني أولى بتأويل ذلك و ذلك أن قوله : { إن ذلك على الله يسير } إلى
قوله : { إن ذلك في كتاب } أقرب و هو له مجاور و من قوله : { الله يحكم بينكم يوم
القيامة } متباعد مع دخول قوله : { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء و الأرض }
بينهما فإلحاقه بما هو أقرب أولى ما وجد للكلام وهو كذلك مخرج في التأويل صحيح
مختصر ابن كثير [ جزء 2 -
صفحة 761
]
ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء
والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير
(70)
70 - ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء
والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير
يخبر تعالى عن كمال علمه بخلقه وأنه
محيط بما في السماوات وما في الأرض وأنه تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها وكتب
ذلك في اللوح المحفوظ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قدر
مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء
" ( أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو ) وفي السنن من حديث جماعة من الصحابة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال أول ما خلق الله القلم قال له : اكتب
قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة
" وقال ابن عباس : خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مائة عام وقال للقلم قبل أن
يخلق الخلق وهو على العرش تبارك وتعالى : اكتب فقال القلم : وما أكتب ؟ قال علمي
في خلقي إلى يوم تقوم الساعة فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة
فذلك قوله : { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض } وهذا من تمام علمه
تعالى علم الأشياء قبل كونها وقدرها وكتبها أيضا فيعلم قبل الخلق أن هذا يطيع
باختياره وهذا يعصي باختياره وكتب ذلك عنده وأحاط بكل شيء علما وهو سهل عليه يسير
لديه ولهذا قال تعالى : { إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير }
مختصر ابن كثير [ جزء 3 -
صفحة 481
]
ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم
إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير (22)
لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال
فخور (23) الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول
فإن الله هو الغني الحميد (24)
يخبر تعالى عن قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية فقال : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم } أي في الآفاق وفي نفوسكم { إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } أي من قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة وقال بعضهم : الضمير عائد على النفوس وقيل عائد على المصيبة والأحسن عوده على الخليقة والبرية لدلالة الكلام عليها كما روي عن منصور بن عبد الرحمن قال : كنت جالسا مع الحسن فقال رجل : سله عن قوله تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } فسألته عنها فقال : سبحان الله ومن يشك في هذا ؟ كل مصيبة بين السماء والأرض ففي كتاب الله من قبل أن يبرأ النسمة وقال قتادة { ما أصاب من مصيبة في الأرض } قال : هي السنون يعني الجدب { ولا في أنفسكم } يقول : الأوجاع والأمراض قال : وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدش عود ولا نكبة قدم ولا خلخال عرق إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر وهذه الآية الكريمة من أدل دليل على القدرية نفاة العلم السابق - قبحهم الله - . روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة " ( أخرجه مسلم وأحمد ورواه الترمذي بالزيادة وقال : حسن صحيح ) وزاد ابن وهب : { وكان عرشه على الماء } وقوله تعالى : { إن ذلك على الله يسير } أي إن علمه تعالى الأشياء قبل كونها سهل عليه عز وجل لأنه يعلم ما كان وما يكون وقوله تعالى : { لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم } أي أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للأشياء قبل كونها وتقديرنا الكائنات قبل وجودها لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم فلا تيأسوا على ما فاتكم { ولا تفرحوا بما آتاكم } أي لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم فإن ذلك ليس بسعيكم ولا بكدكم وإنما هو عن قدر الله ورزقه لكم فلا تتخذوا نعم الله أشرا وبطرا تفخرون بها على الناس ولهذا قال تعالى : { والله لا يحب كل مختال فخور } أي مختال في نفسه متكبر فخور أي على غيره وقال عكرمة : " ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا " ثم قال تعالى : { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } أي يفعلون المنكر ويحضون الناس عليه { ومن يتول } أي عن أمر الله وطاعته { فإن الله هو الغني الحميد } كما قال : { إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد "(تفسير القرطبي [ جزء 17 - صفحة 220 )
قال تعالي:" مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن
نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ"(الحديد/22).
قوله تعالى :"ما أصاب من مصيبة في الأرض" قال مقاتل : القحط وقلة النبات والثمار وقيل : الجوائح في الزرع " ولا في أنفسكم " بالأوصاب والأسقام قاله قتادة وقيل : إقامة الحدود قاله ابن حيان وقيل : ضيق المعاش وهذا معنى رواه ابن جريح { إلا في كتاب } يعني في اللوح المحفوظ { من قبل أن نبرأها } الضمير في نبرأها عائد على النفوس أو الأرض أو المصائب أو الجميع وقال ابن عباس : من قبف أن يخلق المصيبة وقال سعيد بن جبير : من قبل أن يخلق الأرض والنفس" إن ذلك على الله يسير" أي خلق ذلك وحفظه جميعه { على الله يسير } هين قال الربيع بن صالح : لما أخذ سعيد بن حبير رضي الله عنه بكيت فقال : ما يبكيك ؟ قلت : أبكى لما أرى بك ولما تذهب إليه وقال : فلا تبك فإنه كان في علم الله أن يكون وألم تسمع قوله تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم } الآية وقال ابن عباس : لما خلق الله القلم قال له اكتب فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ولقد ترك لهذه الآية جماعة من الفضلاء الدواء في أمراضهم فلم يستعملوه ثقة بربهم وتوكلا عليه وقالوا عد علم الله أيام المرض وأيام الصحة فلو حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا قال الله تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } وقد قيل : إن هذه الآية تتصل بما قبل وهو أن الله سبحانه هو عليهم ما يصيبهم في الجهاد من قتل وجرح وبين أن ما يخلفهم عن الجهاد من المحافظة على الأموال وما يقع فيها من خسران فلكل مكتوب مقدر لا مدفع له وإنما على المرء امتثال الأمر"(تفسير القرطبي ج 17 - صفحة 220).
وقال تعالي:" لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ"(الحديد/23)
ثم أدبهم فقال هذا : "لكي لا تأسوا على ما فاتكم "أي حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من رزق وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فزع منه لم يأسوا على ما فاتهم منه
وعن ابن مسعود أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال :"لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه " ثم قرأ " لكي لا تأسوا على ما فاتكم " أي كي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا فإنه لم يقدر لكم ولو قدر لكم لم يفتكم "ولا تفرحوا بما آتاكم "أي من الدنيا قال ابن عباس وقال سعد بن جبير : من العافية والخصب وروى عكرمة أي من الدنيا قال ابن عباس : ليس من أحد إلا وهو يحزن والفرح المنهي عنهما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز قال الله تعالى :" والله لا يحب كل مختال فخور" أي بما أوتي من الدنيا فخور به على الناس وقراءة العامة آتاكم بمد الألف أي أعطاكم من الدنيا واختاره أبو حاتم وقرأ أبو العالية و نصر بن عاصم و أبو عمرو أتاكم بقصر الألف واختاره أبو عبيد أي جاءكم وهو معادل لـ فاتكم ولهذا لم يقل أفاتكم قال جعفر بن محمد الصادق : يا ابن آدم ما لك تأسى على مفقود لا يرده عليك الفوت أو تفرح بموجود لا يتركه في يدك الموت وقيل لبزرجمهر : أيها الحكيم ! ما لك لا تحزن على ما فات ولا تفرح بما هو آت ؟ قال لأن الفائت لا يتلافى بالعبرة والأتي لا يستدام بالحبرة وقال الفضيل بن عياض في هذا المعنى الدنيا مبيد ومفيد فما أباد فلا رجعة له وما أفاد آذن بالرحيل وقيل : المختال الذي ينظر إلى نفسه بعين الإفتخار والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاحقار وكلاهما شرك خفي والفخور بمنزلة المصراة تشد أخلافهما ليجتمع فيهما اللبن فيتوهم المشتري أن ذلك معتاد وليس كذلك فكذلك الذي يرى من نفسه حالا وزينة وهو مع ذلك مدع فهو الفخور"(تفسير القرطبي [ جزء 16 - صفحة 28 )
وقال تعالي:" وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ"(الشوري/30)
قوله تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم }.. والمصيبة هنا الحدود على المعاصي قاله الحسن وقال الضحاك : ما تعلم رجل القرآن ثم نسيه إلا بذنب قال الله تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } ثم قال : وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن ذكره ابن المبارك عن عبد العزيز بن أبي رواد قال أبو عبيد : إنما هذا على الترك فأما الذي هو دائب في تلاوته حريص على حفظه إلا أن النسيان يغلبه فليس من ذلك في شيء ومما يحقق ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينسى الشيء من القرآن حتى يذكره من ذلك حديث عائشة [ عن النبي صلى الله عليه وسلم : سمع قراءة رجل في المسجد فقال : ما له رحمه الله ! لقد أذكرني آيات كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا "
وقيل : ( ما ) بمعنى الذي والمعنى الذي أصابكم فيما مضى بما كسبت أيديكم وقال علي رضي الله عنه : هذه الآية أرجى آية في كتاب الله عز وجل وإذا كان يكفر عني بالمصائب ويعفو عن كثير فما يبقى بعد كفارته وعفوه ! وقد روى هذا المعنى مرفوعا عنه رضي الله عنه قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها النبي صلى الله عليه وسلم { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } الآية : ( يا علي ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله أكر من أن يثنى عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعاقب به بعد عفوه )
وقال الحسن : لما نزلت هذه الآية [ قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب ولما يعفو الله عنه أكثر ] وقال الحسن : دخلنا على عمران بن حصين فقال رجل : لا بد أن أسألك عما أرى بك من الوجع فقال عمران : يا أخي لا تفعل ! فوالله إني لأحب الوجع ومن أحبه كان أحب الناس إلى الله قال الله تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } فهذا مما كسبت يدي وعفو ربي عما بقي أكثر وقال مرة الهمداني : رأيت على ظهر كف شريح قرحة فقلت : يا أبا أمية ما هذا ؟ قال : هذا بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير
وقال ابن عون : إن محمد بن
سيرين لما ركبه الدين اغتم لذلك فقال : إني لأعرف هذا الغم هذا بذنب أصبته منذ
أربعين سنة وقال أحمد بن أبي الحواري : قيل ل أبي سليمان الداراني : ما بال
العقلاء أزالوا اللوم عمن أساء إليهم ؟ فقال : لأنهم علموا أن الله تعالى إنما ابتلاهم
بذنوبهم قال الله تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير }
وقال عكرمة : ما من نكبة أصابت عبدا فما فوقها إلا بذنب لم يكن الله ليغفره له إلا
بها أو لينال درجة لم يكن يوصله إليها إلا بها وروي أن رجلا قال لموسى : يا موسى
سل الله لي في حاجة يقضيها لي هو أعلم بها ففعل موسى فلما نزل إذ هو بالرجل قد مزق
السبع لحمه وقتله فقال موسى : ما بال هذا يا رب ؟ فقال الله تبارك وتعالى له : يا
موسى إنه سألني درجة علمت أنه لم يبلغها بعمله فأصبته بما ترى لأجعلها وسيلة له في
نيل تلك الدرجة فكان أبو سليمان الداراني إذا ذكر هذا الحديث يقول : سبحان من كان
قادرا على أن ينيله تلك الدرجة بلا بلوى ! ولكنه يفعل ما يشاء
قلت : ونظير هذه الآية في المعنى قوله تعالى : { من يعمل سوءا يجز به } [ النساء : 123 ] وقد مضى القول فيه قال علماؤنا : وهذا في حق المؤمنين فأما الكافر فعقوبته مؤخرة إلى الآخرة وقيل : هذا خطاب للكفار وكان إذا أصابهم شر قالوا : هذا بشؤم محمد فرد عليهم وقال بل ذلك بشؤم كفركم والأول أكثر وأظهر وأشهر وقال ثابت البناني : إنه كان يقال ساعات الأذى يذهبن ساعات الخطايا ثم فيها قولان : أحدهما أنها خاصة في البالغين أن تكون عقوبة لهم وفي الأطفال أن تكون مثوبة لهم الثاني : أنها عقوبة عامة للبالغين في أنفسهم والأطفال في غيرهم من والد ووالدة { ويعفو عن كثير } أي عن كثير من المعاصي ألا يكون عليها حدود وهو مقتضى قول الحسن وقيل : أي يعفو عن كثير من العصاة ألا يعجل عليهم بالعقوبة"(مختصر ابن كثيرجزء 3 - صفحة 323).
قال تعالي:" وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ۖ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ"( الشورى/29- 31).
يقول تعالى :"ومن آياته "الدالة على عظمته وقدرته العظيمة وسلطانه القاهر" خلق السماوات والأرض وما بث فيهما " أي ذرأ فيهما أي في السماوات والأرض "من دابة " وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوانات على اختلاف أشكالهم وألوانهم ولغاتهم وطباعهم وأجناسهم وأنواعهم وقد فرقهم في أرجاء أقطار السماوات والأرض " وهو } مع هذا كله { على جمعهم إذا يشاء قدير } أي يوم القيامة يجمع الأولين والآخرين وسائر الخلائق في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر فيحكم فيهم بحكمه العدل الحق وقوله عز وجل : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } أي مهما أصابكم فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها "ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة " .
وفي الحديث الصحيح : " والذي نفسي بيده ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن إلا كفر الله عنه بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها ".
وعن أبي جحيفة قال : دخلت على ( علي بن أبي طالب ) رضي الله عنه فقال : ألا أحدثكم بحديث ينبغي لكل مؤمن أن يعيه ؟ قال فسألناه فتلا هذه الآية :" وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير "
قال : ما عاقب الله تعالى به في الدنيا فالله أحلم من أن يثني عليه العقوبة يوم القيامة وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود في عفوه يوم القيامة " ( أخرجه ابن أبي حاتم موقوفا ورواه مرفوعا من وجه آخر ) .
وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفرها " ( أخرجه الإمام أحمد في المسند ) .
وقال الحسن البصري في قوله تعالى :" وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير "قال : لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر " ( أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري مرسلا ) .
وعن الضحاك قال : ما نعلم أحدا حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب ثم قرأ :؟"وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير"
ثم قال
الضحاك : وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن ؟