
إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة
في رحاب الحديث
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء رمضان فُتّحـت أبواب الجنة، وغُـلّـقـت أبواب النار، وصُفّـدت الشـياطين"(مسلم).
يدل هذا الحديث العظيم على ثلاثة أشياء يتميز بها شهر رمضان المبارك عن غيره من الشهور، وهي:
أولاً:"إذا جاء رمضان فُتّحت أبواب الجنة" تفتح أبواب الجنة، ترغيبا للعاملين لها بكثرة الطاعات من صلاةٍ وصيامٍ وصدقةٍ وذكرٍ وقراءةٍ للقرآن وغير ذلك.
يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم:"إِنَّ في الجنةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُها من باطِنِها ، و باطِنُها من ظَاهِرِها . فقال أبو مالِكٍ الأَشْعَرِيُّ : لِمَنْ هيَ يا رسولَ اللهِ ؟ قال : لِمَنْ أَطَابَ الكَلامَ ، و أَطْعَمَ الطَّعَامَ ، و باتَ قائِمًا و الناسُ نِيامٌ"(أحمد،والطبراني والحاكم ).واللفظ له
الجنَّةُ هي أسْمى ما يَطلُبُ المُسلِمُ من ربِّه عزَّ وجلَّ؛
فدُخولُها هو الفَوْزُ المُبينُ؛ لذلك كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
كثيرًا ما يُرغِّبُ أصْحابَه فيها، ويَصِفُها لهم، ويُوضِّحُ لهم بعْضَ نَعيمِها
حتى يَجْتَهِدوا في الظَّفَرِ بها.
وفي هذا الحديثِ وصفٌ لبعضِ ما فيها وللأعمالِ التي تكونُ سببًا في
الفوزِ به، حيثُ يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "إنَّ في الجنَّةِ
غُرُفًا" جمْعُ غُرْفَةٍ وهي الحُجْرةُ، "يُرى ظاهِرُها من باطِنِها،
وباطِنُها من ظاهِرِها"، أي: أنَّها غُرَفٌ شفَّافةٌ يَرى مَن بداخِلِها مَنْ
خارِجَها، ويَرى مَن خارِجَها مَنْ بداخِلِها، كأنْ تكونَ من زُجاجٍ أو أَلْماسٍ
أو دُرٍّ وياقوتٍ، ولا يَعلَمُ حَقيقَتَها إلَّا اللهُ.
فقال الصحابيُّ الجليلُ أبو مالِكٍ الأشْعريُّ رضِيَ اللهُ عنه:
"لِمَنْ هي يا رسولَ اللهِ؟"، أي: لِمَنْ تلك الغُرَفُ التي يُرى
ظُهورُها من بُطونِها، وبُطونُها من ظُهورِها؟ والتَّقْديرُ: ما هي الأعْمالُ التي
إذا أتى بها صاحِبُها في الدُّنْيا ظَفر وفازَ بها في الآخِرَةِ؟ فقال النَّبيُّ
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "هي لِمَن أطابَ الكلامَ"، أي: لِمَن تكلَّم
بطِيبِ الكَلامِ، وتَرَكَ قَبيحَه وشَرَّه، وهذه كِنايَةٌ عن حُسْنِ الخُلُقِ،
"وأَطْعَمَ الطَّعامَ"، أي: وأَطْعَمَ الجَوْعى من الفُقراءِ
والمَساكينِ، وهذه كِنايَةٌ عن الصَّدَقةِ والإنْفاقِ، "وباتَ قائِمًا
والناسُ نيامٌ"، أي: وحافَظَ على قِيامِ اللَّيلِ والتَّهجُّدِ للهِ عزَّ
وجلَّ، والناسُ في غَفْلةٍ نائِمونَ.
وفي الحديثِ: أنَّ الحِرْصَ على العِباداتِ، والزيادَةَ فيها سَبَبٌ
لنَيْلِ الدَّرَجاتِ العُلْيا في الجنَّةِ .
ويقول تعالي:" مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَآ أَنْهَٰرٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍۢ وَأَنْهَٰرٌ مِّن لَّبَنٍۢ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُۥ وَأَنْهَٰرٌ مِّنْ خَمْرٍۢ لَّذَّةٍۢ لِّلشَّٰرِبِينَ وَأَنْهَٰرٌ مِّنْ عَسَلٍۢ مُّصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ "(محمد/15).
ۖ صفة الجنة التي وعدها الله المتقين: فيها أنهارٌ عظيمة من ماء غير متغيِّر، وأنهار من لبن لم يتغيَّر طعمه، وأنهار من خمر يتلذذ به الشاربون، وأنهار من عسل قد صُفِّي من القذى، ولهؤلاء المتقين في هذه الجنة جميع الثمرات من مختلف الفواكه وغيرها، وأعظم من ذلك السَّتر
ويقول تعالي:"یَطُوفُ عَلَیۡهِمۡ وِلۡدَ ٰنࣱ مُّخَلَّدُونَ بِأَكۡوَابࣲ وَأَبَارِیقَ وَكَأۡسࣲ مِّن مَّعِینࣲ لَّا یُصَدَّعُونَ عَنۡهَا وَلَا یُنزِفُونَ وَفَـٰكِهَةࣲ مِّمَّا یَتَخَیَّرُونَ وَلَحۡمِ طَیۡرࣲ مِّمَّا یَشۡتَهُونَ"(الواقعة ١٣-٢١]
يقول تعالى ذكره: جماعة من الأمم الماضية، وقليل من أمة محمد ﷺ، وهم الآخرون وقيل لهم الآخرون: لأنهم آخر الأمم ﴿عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ﴾ يقول: فوق سُرر منسوجة، قد أدخل بعضها في بعض، كما يوضن حلق الدرع بعضها فوق بعض مضاعفة؛
ومنه وضين الناقة، وهو البطان من السيور إذا نسج بعضه على بعض مضاعفا
كالحلق حلق الدرع: وقيل: وضين، وإنما هو موضون، صرف من مفعول إلى فعيل، كما قيل:
قتيل لمقتول: وحُكي سماعا من بعض العرب أزيار الآجرّ موضون بعضها على بعض، يراد مشرج
صفيف.
وقيل: إنما قيل لها سُرر موضونة، لأنها مشبكة بالذهب والجوهر.ويطوف عليهم الغلمان بما يتخيرون من الفواكه، وبلحم طير ممَّا ترغب فيه نفوسهم. ولهم نساء ذوات عيون واسعة، كأمثال اللؤلؤ المصون في أصدافه صفاءً وجمالا؛ جزاء لهم بما كانوا يعملون من الصالحات في الدنيا.
وفاكهة مما يتخيرون - تفسير السعدي
وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ -
أي: مهما تخيروا، وراق في أعينهم، واشتهته نفوسهم، من أنواع الفواكه الشهية،
والجنى اللذيذ، حصل لهم على أكمل وجه وأحسنه.
:"وَحُورٌ عِینࣱ كَأَمۡثَـٰلِ ٱللُّؤۡلُوِٕ ٱلۡمَكۡنُونِ جَزَاۤءَۢ بِمَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ لَا یَسۡمَعُونَ فِیهَا لَغۡوࣰا وَلَا تَأۡثِیمًا إِلَّا قِیلࣰا سَلَـٰمࣰا سَلَـٰمࣰا "(الواقعة ٢٢-٢٦).
إذَا ما الغانِياتُ بَرَزْنَ يَوْما وَزَجَّجْن الْحَوَاجِبَ والعُيُونا(١) فالعيون تكَحَّل. ولا تزجَّج إلا الحواجب،
وفى رواية : فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَأْمُرُ جَنَّتَهُ فَيَقُولُ لَهَا : اسْتَعِدِّي وَتَزَيَّنِي لِعِبَادِي أَوْشَكَ أَنْ يَسْتَرِيحُوا مِنْ تَعَبِ الدُّنْيَا إِلَى دَارِي وَكَرَامَتِي - (شعب الإيمان).
وفى رواية : فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَأْمُرُ جَنَّتَهُ فَيَقُولُ لَهَا : اسْتَعِدِّي وَتَزَيَّنِي لِعِبَادِي أَوْشَكَ أَنْ يَسْتَرِيحُوا مِنْ تَعَبِ الدُّنْيَا إِلَى دَارِي وَكَرَامَتِي - (شعب الإيمان)
أَلَا وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ عَطَايَا رَمَضَانَ أَنَّهُ شَهْرٌ تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجِنَانِ، كَمَا قَالَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ..."
فَتَعَالَوْا إِلَى حَدِيثٍ مَعَ هَذِهِ الْأَبْوَابِ، نَتَعَرَّفُ أَسْمَاءَهَا، وَحَجْمَهَا، وَحِكْمَةَ تَعَدُّدِهَا، وَشَيْءٍ مِنَ السَّوَانِحِ الْخَاطِرَةِ، وَالتَّأَمُّلَاتِ الْعَابِرَةِ.
يَا طُلَّابَ الْجِنَانِ، أَبْوَابُ الْجَنَّةِ تَنَاهَتْ
نَضَارَتُهَا، وَتَلَأْلَأَ بَهَاؤُهَا، يَعْجِزُ الْخَيَالُ عَنِ الْوُصُولِ
لِحَقِيقَةِ ذَلِكَ الْجَمَالِ وَالْإِبْدَاعِ.
لَهَا أَسْمَاءٌ مَعْلُومَةٌ، لِكُلِّ بَابٍ مِنْهَا جُزْءٌ
مَقْسُومٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
يَصِلُ أَهْلُ الْإِيمَانِ إِلَى تِلْكَ الْأَبْوَابِ بَعْدَ
أَهْوَالٍ عَظِيمَةٍ تَشِيبُ لِهَوْلِهَا مَفَارِقُ الصِّبْيَانِ، فَلَا تَسَلْ
عَنْ سُرُورِهِمْ وَقَدْ جَاوَزُوا تِلْكَ الصِّعَابَ إِلَى دَارِ الرَّاحَةِ
وَالْهَنَاءِ
لَا تَسَلْ عَنِ الْفَرَحِ كَيْفَ يَلْتَفُّ بِأَهْلِهِ، وَهُمْ
مُتَمَاسِكُونَ يَسِيرُونَ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا
رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ
أَبْوَابُهَا) [الزُّمَرِ: 73]، أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ مُشْرَعَةٌ، لَيْسَ
وَرَاءَهَا نَكَدٌ وَلَا نَصَبٌ، وَإِنَّمَا هُوَ النَّعِيمُ الدَّائِمُ
الْمُتَجَدِّدُ الَّذِي لَا يُوصَفُ.
وَأَمَّا عَدَدُ تِلْكَ الْأَبْوَابِ، فَهِيَ ثَمَانِيَةٌ، لِكُلِّ
بَابٍ اسْمٌ خَاصٌّ، وَأَهْلٌ مَخْصُوصُونَ.
أَعْمَالٌ يُحِبُّهَا اللَّهُ، فَسَمَّى بِهَا أَبْوَابَ جَنَّاتِهِ،
فَمَنِ اسْتَزَادَ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ وَقُبِلَ مِنْهُ، دُعِيَ بِاسْمِهِ مِنْ
هَذَا الْبَابِ.
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "فِي الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ، بَابٌ مِنْهَا
يُسَمَّى الرَّيَّانَ، لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا الصَّائِمُونَ".
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
مِنْ مَالِهِ دُعِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَلِلْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ
أَبْوَابٍ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ،
وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ
كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ
أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصِّيَامِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ عَلَى
الَّذِي يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى مِنْهَا
كُلِّهَا أَحَدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ
مِنْهُمْ".
فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ، وَأَمَّا الْبَابُ الْخَامِسُ،
فَهُوَ بَابُ الْوَالِدِ، رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ وَصَحَّحَهُ
الْأَلْبَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ
الْجَنَّةِ؛ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوِ احْفَظْهُ".
وَأَمَّا الْبَابُ السَّادِسُ، فَهُوَ بَابُ: (لَا حَوْلَ وَلَا
قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ)،
هَذَا قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ: "أَلَا
أَدُلُّكَ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: لَا
حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ،
وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَبَابٌ سَابِعٌ فِي الْجَنَّةِ خَاصٌّ بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هُوَ بَابُ الْمُتَوَكِّلِينَ، جَاءَ فِي حَدِيثِ
ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: "أَنَّ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ أُمَّةِ
مُحَمَّدٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ"، وَجَامِعُ
صِفَاتِهِمْ أَنَّهُمْ مُتَوَكِّلُونَ عَلَى اللَّهِ، هَؤُلَاءِ خَصَّهُمُ اللَّهُ
بِالْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ.
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
الطَّوِيلِ، "فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ
مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ،
وَهُمْ شُرَكَاءُ لِلنَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَبْوَابِ...".
وَأَمَّا الْبَابُ الثَّامِنُ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَقَدْ
يَكُونُ بَابَ التَّوْبَةِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ- مَرْفُوعًا: "لِلْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ، سَبْعَةٌ
مُغْلَقَةٌ، وَبَابٌ مَفْتُوحٌ لِلتَّوْبَةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ
نَحْوِهِ". رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَجَوَّدَ إِسْنَادَهُ
الْمُنْذِرِيُّ، وَضَعَّفَهُ غَيْرُهُ
وَقَدْ يَكُونُ الْبَابُ الثَّامِنُ هُوَ بَابَ الْحَجِّ، كَمَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ.
عِبَادَ اللَّه
هَذِهِ الْأَبْوَابُ فَسِيحَةٌ عَظِيمَةٌ، جَاءَ وَصْفُهَا فِي
النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ، فَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ: "وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعَ الْجَنَّةِ
كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى".
وَجَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ تَحْدِيدُ مَسَافَةٍ أَطْوَلَ مِنْ
هَذَا، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَلَمَّا كَانَتِ الْجَنَّاتُ
دَرَجَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ كَانَتْ أَبْوَابُهَا كَذَلِكَ، وَبَابُ
الْجَنَّةِ الْعَالِيَةِ فَوْقَ بَابِ الْجَنَّةِ الَّتِي تَحْتَهَا، وَكُلَّمَا
عَلَتِ الْجَنَّةُ اتَّسَعَتْ؛ فَعَالِيهَا أَوْسَعُ مِمَّا دُونَهُ، وَسِعَةُ
الْبَابِ بِحَسْبِ وُسْعِ الْجَنَّةِ، وَلَعَلَّ هَذَا وَجْهُ الِاخْتِلَافِ
الَّذِي جَاءَ فِي مَسَافَةِ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيِ الْبَابِ؛ فَإِنَّ
أَبْوَابَهَا بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ).
هَذِهِ الْأَبْوَابُ لَهَا حَلْقَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، يُقْرَعُ بِهَا
الْبَابُ، وَأَوَّلُ مَنْ تُفْتَحُ لَهُ هُوَ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ، وَحَبِيبُ
رَبِّ الْعَالَمِينَ.
جَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "أَنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ" رَوَاهُ
مُسْلِمٌ.
وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ:
"... فَآتِي بَابَ الْجَنَّةِ، فَآخُذُ بِحَلْقَةِ الْبَابِ، فَأَسْتَفْتِحُ...".
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: "وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا
حَلْقَةٌ حِسِّيَّةٌ تُحَرَّكُ وَتُقَعْقَعُ".
ذَاكَ -عِبَادَ اللَّهِ- شَيْءٌ مِنْ أَوْصَافِ أَبْوَابِ
الْجَنَّةِ، وَطَرَفٌ مِنْ أَخْبَارِهَا، بَلَّغَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ دَارَ
كَرَامَتِهِ، وَجَعَلَنَا مِمَّنْ تُفْتَحُ لَهُمْ تِلْكَ الْأَبْوَابُ، وَمِمَّنْ
يُهَنَّأُ: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)
[الرَّعْدِ: 24].
تَعَدُّدُ أَبْوَابِ الجنَّةِ وَاخْتِلَافُ مُسَمَّيَاتِهَا
كَأَنَّمَا هِيَ تَحْكِي رَحْمَةَ اللَّهِ وَرَأْفَتَهُ بِعِبَادِهِ، حَيْثُ نَوَّعَ
لَهُمْ سُبُلَ الْوُصُولِ لِجَنَّتِهِ وَمَرْضَاتِهِ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ خَالِقُ
الْخَلْقِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ، خَلَقَهُمْ مُتَبَايِنِينَ فِي عِلْمِهِمْ
وَبَصِيرَتِهِمْ، مُخْتَلِفِينَ فِي مُيُولِهِمْ وَرَغَبَاتِهِمْ، مُتَفَاوِتِينَ
فِي عَزَائِمِهِمْ وَهِمَمِهِمْ.
فَمِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، وَمِنْهُمُ الضَّعِيفُ، وَفِي
كُلٍّ خَيْرٌ.
مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ الْغَنِيُّ يَشْكُرُ، فَيُجَازَى عَلَى
شُكْرِهِ، وَمِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ الْفَقِيرُ يَصْبِرُ فَيُكَافَأُ عَلَى
صَبْرِهِ، وَالْكُلُّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ.
هَذَا التَّفَاوُتُ فِي الْخَلْقِ أَدْرَكَهُ سَيِّدُ الْخَلْقِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَتْ وَصَايَاهُ لِلصَّحَابَةِ
تَخْتَلِفُ مِنْ رَجُلٍ لِآخَرَ، فَمَرَّةً أَوْصَى أَحَدَهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَى
وَقْتِهَا، وَآخَرُ أَوْصَاهُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَثَالِثٌ
بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ، وَرَابِعٌ قَالَ لَهُ: لَا تَغْضَبْ، وَخَامِسٌ أَوْصَاهُ:
أَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ.
فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَمَّتْ عَلَى عِبَادِهِ وَطَابَتْ، لِيَكُونَ
سَبِيلُ الْجَنَّاتِ لَيْسَ مَقْصُورًا فِي بَابٍ ثابِتْ، وَإِنَّمَا عَدَّدَ
أَبْوَابَهَا الَّذِي خَلَقَهَا، لِيَدْخُلَ كُلُّ مُؤْمِنٍ مِنَ الْبَابِ الَّذِي
يُنَاسِبُهُ.
فَمِنَ الْفِقْهِ فِي طَبَائِعِ الْبَشَرِ أَنْ لَا يُحَجِّرَ
الْعَبْدُ وَاسِعًا، وَأَنْ لَا يَقْصُرَ الْخَيْرَ عَلَى بَابٍ وَاحِدٍ،
وَيُزَهِّدَ فِيمَا سِوَاهُ.
وَمِنَ الْفِقْهِ أَيْضًا: أَنْ يَلْزَمَ الْعَبْدُ الْخَيْرَ
الَّذِي فُتِحَ لَهُ، فَقَدْ يُفْتَحُ لِلْعَبْدِ بَابٌ مِنَ الْعَمَلِ، دُونَ
بَابٍ آخَرَ يَكُونُ مُقَصِّرًا فِيهِ
قَدْ يَأْتِي إِنْسَانٌ سَبَّاقٌ فِي صِيَامِ النَّوَافِلِ،
لَكِنَّهُ مُقَصِّرٌ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.
وَقَدْ تَرَى عَبْدًا قَوَّامًا بِالْأَسْحَارِ، لَكِنَّهُ شَحِيحٌ
بِيَمِينِهِ إِلَّا مِنَ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ، وَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي
بَقِيَّةِ الشُّعَبِ.
كَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ
الْعَابِدُ إِلَى مَالِكٍ يَحُضُّهُ عَلَى الِانْفِرَادِ وَالْعَمَلِ، فَكَتَبَ
إِلَيْهِ مَالِكٌ: "إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ الْأَعْمَالَ كَمَا قَسَمَ
الْأَرْزَاقَ، فَرُبَّ رَجُلٍ فُتِحَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ، وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ
فِي الصَّوْمِ، وَآخَرَ فُتِحَ لَهُ فِي الصَّدَقَةِ، وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ فِي
الصَّوْمِ، وَآخَرَ فُتِحَ لَهُ فِي الْجِهَادِ، فَنَشْرُ الْعِلْمِ مِنْ أَفْضَلِ
أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَقَدْ رَضِيْتُ بِمَا فُتِحَ لِي فِيْهِ، وَمَا أَظُنُّ مَا
أَنَا فِيْهِ بِدُونِ مَا أَنْتَ فِيْهِ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُوْنَ كِلَانَا عَلَى
خَيْرٍ وَبِرٍّ
وَلَوْ تَأَمَّلْنَا حَالَ صَحَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوَجَدْنَا أَبْوَابَ الْخَيْرِ مُوَزَّعَةً بَيْنَهُمْ،
وَلَمْ يَكُونُوا فِي مَقَامَاتِ الْبِرِّ سَوَاءً
فَمِنْهُمُ الزَّاهِدُ الْمُنْكَفِئُ لِلْعِبَادَةِ كَأَبِي ذَرٍّ.
وَمِنْهُمُ الْمُتَفَرِّغُ لِحِفْظِ السُّنَّةِ وَتَبْلِيغِهَا
كَأَبِي هُرَيْرَةَ.
وَمِنْهُمُ الْبَطَلُ الصِّنْدِيدُ؛ كَسَيْفِ اللَّهِ ابْنِ
الْوَلِيدِ.
وَمِنْهُمُ التَّاجِرُ الضَّارِبُ فِي الْأَسْوَاقِ كَابْنِ عَوْفٍ.
وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ اصْطَفَاهُمُ اللَّهُ وَفَضَّلَهُمْ،وَهُمْ فِي
اسْتِجَابَتِهِمْ وَعَمَلِهِمْ دَرَجَاتٌ: فَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ،
قَائِمٌ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ، تَارِكٌ لِلْمَعَاصِي
وَالْمُحَرَّمَاتِ
وَصِنْفٌ مُقْتَصِدٌ أَتَى بِالْوَاجِبَاتِ وَتَرَكَ الْمُسْتَحَبَّاتِ.
وَصِنْفٌ ثَالِثٌ أَقَامَ وَاجِبَاتِ إِسْلَامِهِ الْأَسَاسِيَّةَ،
لَكِنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِالْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ.
وَمَعَ هَذَا التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمْ فَالْكُلُّ دَاخِلٌ فِي
اصْطِفَاءِ اللَّهِ، وَالْجَمِيعُ مَوْعُودٌ بِجَنَّاتِ رَبِّهِ وَمَوْلَاهُ،
قَالَ تَعَالَى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ
سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) [فَاطِرٍ:
32-33].
نَعَمْ تَتَفَاوَتُ مَنَازِلُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ، فَمِنْهُمُ الصِّدِّيقُونَ، وَمِنْهُمُ الشُّهَدَاءُ، وَمِنْهُمُ الصَّالِحُونَ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ أَحَدِ هَذِهِ الْمَنَازِلِ فَذَلِكَ خَيْرٌ، وَفَضْلٌ مِنَ اللَّهِ، وَإِلَّا فَلْيُكُنْ طَائِعًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، لِيُحْشَرَ مَعَهُمْ، وَيَحْظَى بِصُحْبَتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقا) [النِّسَاءِ: 69].