تحويل القبلة دروس وعبر
الشيخ أحمد أبو اسلام
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف
الحكمة من تحويل القبلة
متى وقع تحويل القبلة؟
دروس ووقفات مع هذا الحديث العظيم
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين أمابعد
فياعباد الله :"
وقعت في سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حوادث فارقة في توجيه مسيرة الأمة المسلمة، وحادثة تحويل القبلة من الحوادث الفارقة في تميُّز الصفِّ المسلم .
عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- "إِنَّ الْيَهُود قَوْمٌ حُسَّدٌ وَإِنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَا عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي هَدَانَا اللهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هَدَانَا اللهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإمَامِ: آمِينَ، وَعَلَى السَّلَامِ). ( أحمد )
كان سيدنا رسول الله ﷺ في مكة يصلي إلى بيت المقدس ويجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس؛ كي يستقبلهما معًا؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسولُ اللهِ ﷺ يُصلِّي وهو بمكةَ نَحْوَ بيتِ المقدسِ والكعبةُ بينَ يدَيهِ".
لما هاجر سيدنا النبي ﷺ والمسلمون إلى المدينة كان بيت القدس قبلتهم ما يقرب من عام ونصف؛ فعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَلَّى نحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ، سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا...».
جاء الأمر الإلهي إلى سيدنا رسول الله ﷺ بتحويل القبلة إلى المسجد الحرام بمكة في منتصف شهر شعبان من العام الثاني للهجرة على المشهور، ونزل قول الله سبحانه: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
الحكمة من تحويل القبلة
إنَّ لله تعالى في جعل القبلة إلى بيت المقدس، ثم تحويلها إلى الكعبة، حِكَما عظيمة، منها:
- محنة وابتلاء ليتميز الصف
الفارق بين مَن يعبد الله ومَن يعبد هواه، سرعة الاستجابة والامتثال لأوامر الشرع ولو تعارضتْ مع أهواء النفس، وتصادمت مع آراء الناس، قال ابن القيم: كان لله في جعل القبلة إلى بيت المقدس ثم تحويلها إلى الكعبة حكمٌ عظيمة، ومحنة للمسلمين والمشركين واليهود والمنافقين.
فأما المسلمون فقالوا: سمعنا وأطعنا وقالوا:"آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا"(آل عمران: 7). وهم الذين هدى الله، ولم تكن كبيرةً عليهم.
وأما المشركون فقالوا: كما رجع إلى قبلتنا، يوشك أن يرجع إلى ديننا، وما رجع إليها إلا أنه الحق.
وأما اليهود فقالوا: خالف قبلةَ الأنبياء قبله، ولو كان نبيا لكان يصلي إلى قبلة الأنبياء.
وأما المنافقون فقالوا: ما يدري محمد أين يتوجه، إن كانت الأولى حقا فقد تركها، وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل، وكثرت أقاويل السفهاء من الناس، وكانت كما قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143] وكانت محنة من الله امتحن بها عباده ليرى من يتبع الرسول منهم ممن ينقلب على عقبيه. (زاد المعاد)
- فعندما تُبتلى النفوس يتبين مَنْ يعبد الله ممنْ يعبد هواه، عن سعيد بن جبير قال: لقيني راهبٌ فقال: يا سعيد، في الفتنة يتبين من يعبد الله ممن يعبد الطاغوت. (حلية الأولياء)
- وعندما تُبتلى النفوس يظهر مَن يعبد الله على حرفٍ ممن رسخت أقدامه في الإيمان، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ"(الحج: 11).
- وعندما تُبتلى النفوس يتبين مَن يعبد الله رجاءَ ما عند الله، ممن لا يريد إلا الدنيا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ المَدِينَةَ، فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلاَمًا، وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ، قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ، قَالَ: هَذَا دِينُ سُوءٍ؟. (البخاري)
كان حدث تحويل القبلة اختبارًا من الله سبحانه تبين من خلاله المؤمن الصادق المُسلِّم لله وشرعه، والمعاند العاصي لله ورسوله ﷺ؛ قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّاِ لنَعْلَمَ َمنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}، فكانت استجابة المؤمنين صدقًا وهُدًي ونورًا؛ إذ سارعوا إلى امتثال الأمر ولسان حالهم يقول: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا.
أما المشركون فزادهم هذا الحدث العظيم عنادًا على عنادهم، وقالوا: يوشك أن يرجع محمدٌ إلى ديننا كما رجع إلى قِبلتِنا؛ فخاب ظنهم، وكسَد سعْيُهم، وباؤوا بغضبٍ على غضبٍ.
إنه ليس هناك عند الله اتجاه مفضل على اتجاه.. ولكن تغيير القبلة جعله الله سبحانه اختبارا إيمانيا ليس علم معرفة ولكن علم مشهد.. لأن الله سبحانه وتعالى يعلم.. ولكنه جل جلاله يريد أن يكون الإنسان شهيدا على نفسه يوم القيامة.. ولكنه اختبار إيماني ليعلم الله مدى إيمانكم ومن سيطيع الرسول فيما جاءه من الله ومن سينقلب على عقبيه..
وقوله تعالى: } وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ". والله يريد هنا العلم الذي سيكون شهيدا على الناس يوم القيامة.. وعملية الابتلاء أو الاختبار في تغيير القبلة عملية شاقة.. إلا على المؤمنين الذين يرحبون بكل تكليف.. لأنهم يعرفون أن الإيمان هو الطاعة ولا ينظرون إلى علة الأشياء.
ولكن الكفار والمنافقين واليهود لم يتركوا عملية تحويل القبلة تمر هكذا فقالوا: إن كانت القبلة هي الكعبة فقد ضاعت صلاتكم أيام اتجهتم إلى بيت المقدس.. وإن كانت القبلة هي بيت المقدس فستضيع صلاتكم وأنتم متجهون إلى الكعبة.
نقول لهم لا تعزلوا الحكم عن زمنه.. قبلة بيت المقدس كانت في زمنها والكعبة تأتي في زمنها.. لا هذه اعتدت على هذه ولا هذه اعتدت على هذه.. ولقد مات أناس من المؤمنين وهم يصلون إلى بيت المقدس فقام المشككون وقالوا صلاتهم غير مقبولة.. ورد الله سبحانه بقوله: } وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ {.. لأن الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس كانوا مطيعين لله مؤمنين به فلا يضيع الله إيمانهم.
وقوله تعالى: } إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ".. أي تذكروا أنكم تؤمنون برب رءوف لا يريد بكم مشقة.. رحيم يمنع البلاء عنكم.(/147) (تفسير الشعراوي)
العلاقة وثيقة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى
أكد حدث تحويل القبلة على العلاقة الوثيقة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، تلك العلاقة التي دلت على قوتها وشرفها أدلةٌ كثيرة؛ كقول أبي ذر لسيدنا رسول الله ﷺ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى». قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ»، ثُمَّ قَالَ: «حَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ، وَالْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ ».
أثر حدث تحويل القبلة على المستوى المجتمعي
وعلى المُستوى المُجتمعي: يظهر هذا الحدث تكاتف المسلمين واتحادهم وأنهم بمثابة الجسد الواحد في التسليم لوحي الله سبحانه وشرعه، وفي حرص بعضهم على بعض، حينما خاف بعضهم على إخوانهم الذين ماتوا ولم يدركوا الصلاة إلى المسجد الحرام؛ فأنزل الحقُّ سبحانه قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ". [البقرة: 143]
الغاية من هذا الحدث هي أن العبودية لله وحده
رسخت حادثة تحويل القبلة أن الغاية العظمى هي عبودية الله سبحانه والتسليم له وإن اختلفت الوجهة؛ فلله سبحانه المشارق والمغارب، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
- تضمن حدث تحويل القبلة تعظيمًا وتشريفًا لأُمَّة الإسلام بالوسطية والتوفيق إلى قبلة أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام؛ لتستحق بذلك مكانة الشهادة على جميع الأمم؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا
- لتحويل القبلة أبعادٌ كثيرة
إن لتحويل القبلة أبعادًا كثيرة، منها: السياسي، والعسكري، والديني البحت، والتاريخي.
فبُعْدها السياسي: أنها جعلت الجزيرة العربية محور الأحداث
وبُعدها التاريخي: أنها ربطت هذا العالم بالإرث العربي لإبراهيم عليه الصلاة والسلام وبُعدها العسكري: أنها مهدت لفتح مكة وإنهاء دولة الشرك فيها
وبعدها الديني: أنّها ربطت القلوب بالحنيفية، وميزت الأمة الإسلامية عن غيرها. . ومن ثَمَّ كان تحويل القبلة نعمةً من نعم الله علينا، كما قال الله تعالى:" وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ"[البقرة: 150]. (الأساس في السنة وفقهها _ السرة النبوية)
- كما أن تحويل القبلة فيه إشارة إلى انتقال القيادة والإمامة في الدين من بني إسرائيل الذين كانت الشام وبيت المقدس موطنهم إلى العرب الذين كانت الحجاز مستقرهم، قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]
دروس ووقفات مع هذا الحديث العظيم
لقد كانت حادثة تحويل القبلة، حادثة عظيمة، فيها من الدروس والعبر الكثير، والتي ينبغي الوقوف معها والاستفادة منها، ومن ذلك:
مع نبي الإسلام
- بيان عظيم مكانة النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الله
استجاب الله دعاء نبيه -صلى الله عليه وسلم- وحقق الله رجاءه، وما ذلك إلا لعظيم مكانته عند ربه، قال الله تعالى:" قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا"(البقرة: 144).
قال ابن القيم: فهو -صلى الله عليه وسلم- الذي شرح الله له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وجعل الذلة والصغار على مَن خالف أمره، وأقسم بحياته في كتابه المبين، وقرن اسمَه باسمه فإذا ذُكِرَ ذُكِرَ معه كما في الخطب والتشهد والتأذين، وافترض على العباد طاعته ومحبته والقيام بحقوقه، وسدَّ الطرق كلها إليه وإلى جنته فلم يفتح لأحد إلا من طريقه؛ فهو الميزان الراجح الذي على أخلاقه وأقواله وأعماله توزن الأخلاق والأقوال والأعمال، والفرقان المبين الذي باتباعه يميز أهل الهدى من أهل الضلال. (إعلام الموقعين عن رب العالمين)
على قدر الهمة في الدين يكون المدد من رب العالمين
ظلَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يقلِّبُ وجهه في السماء سائلا ربه مستعطفا راجيا، إلى أن حقق الله مطلوبه وأعطاه منهاه، وهكذا تُنال المطالب وتُقضى الحاجات، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ،. . . . فَدَنَا مِنَ القَرْيَةِ صَلاَةَ العَصْرِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِلشَّمْسِ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا، فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ). (رواه البخاري)
قال ابن القيم: المعونةُ من الله تنزل على الْعباد على قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم، والخذلان ينزل عَلَيْهِم على حسب ذَلِك، فَالله سُبْحَانَهُ أحكم الْحَاكِمين وَأعلم الْعَالمين يضع التَّوْفِيق فِي موَاضعه اللائقة بِهِ والخذلان فِي موَاضعه اللائقة بِهِ هُوَ الْعَلِيم الْحَكِيم. (الفوائد لابن القيم)
إثبات نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم-
فقد أخبر الله تبارك وتعالى بما سيقوله اليهود عند تحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، قبل وقوع الأمر بالتحويل، ولهذا دلالته، فهو يدل على صدق نبوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ هو أمر غيبي، فأخبر عنه -صلى الله عليه وسلم- بآيات قرآنية قبل وقوعه ثم وقع، وفي ذلك يقول الله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142]
مع الصحابة
- نتعلم من الصحابة كمال التسليم والانقياد لأوامر الله
فالمسلم عبدٌ لله تعالى، يسلِّم لأحكامه وينقاد لأوامره بكل حب ورضا، و يعلم علم اليقين، أنه ما أمره الله تعالى بأمر ولا نهاه عن شيء، إلا كان في مصلحته سواء علم ذلك أو لم يعلمه، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } [الأحزاب: 36]
هذه الطاعة، وذلك التسليم، الذي أقسم الله تعالى بنفسه على نفي الإيمان عمن لا يملكه في قوله تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]
والصحابة -رضي الله عنهم- ضربوا أروع الأمثال في سرعة امتثالهم لأوامر الشرع، فلما أُمِروا بالتوجه إلى المسجد الحرام سارعوا وامتثلوا، بل إن بعضهم لما علم بتحويل القبلة وهم في صلاتهم تحولوا وتوجهوا إلى القبلة الجديدة في نفس الصلاة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-، قَالَ: بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ، إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الكَعْبَةِ. (رواه البخاري)
- مِن مواقف الانقياد والتسليم عند الصحابة -رضي الله عنهم-:
- إراقة الخمور بمجرد التحريم
- سرعة استجابة النساء في ارتداء الحجاب
- والأعجب من ذلك: خلع النعال أثناء الصلاة متابعةً للنبي -صلى الله عليه وسلم- الذي خلعه لنجاسة فيه!. والنماذج في هذا المعنى كثيرة من واقع الصحابة، ولكنها إشارة للعاقل.
- والسؤال: أين هذا مِن حال مَن يجادلون في آيات الله بغير علم؟! وممن يطعنون في أصول الدين لأنها لا تتوافق مع أهوائهم المنحرفة وعقولهم الخرِبة؟
الوقفة الثالثة: مكانة الأمة الإسلامية وفضلها
- إنها الأمة الوسط: قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]
يقول ابن كثير: إنما حوَّلناكم إلى قبلةِ إبراهيم، عليه السلام، واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم، لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم؛ لأن الجميع معترفون لكم بالفضل.
فهذه الأمة هي الأمة الوسط في التصور والاعتقاد، وفي التفكير والشعور في التنظيم والتنسيق، في الارتباطات والعلاقات، وحتى في المكان في سُرَّةِ الأرض وأوسط بقاعها.
- إنها أعظم الأمم وأسبقها فضلاً
قال الله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران: 110]
عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ (أَنْتُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ). (رواه الترمذي)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ). (رواه مسلم)
- لذلك لا ينبغي الإعجاب بالإعجاب بضلالات غير المسلمين والاقتداء بهم في ضلالهم
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ). قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ آلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: (فَمَنْ). (23)
قبلتنا تذكرنا دائما بـــ
- توحدنا وتوحيدنا
من كل اتجاه، في أنحاء الأرض جميعًا، قبلة واحدة تجمع هذه الأمة وتوحِّد بينها على اختلاف مواطنها، واختلاف مواقعها من هذه القبلة، واختلاف أجناسها وألسنتها وألوانها، قبلة واحدة، تتجه إليها الأمة الواحدة في مشارق الأرض ومغاربها، فتشعر أنها جسم واحد، وكيان واحد، تتجه إلى هدف واحد، وتسعى لتحقيق منهج واحد، منهج ينبثق من كونها جميعًا تعبد إلهًا واحدًا، وتؤمن برسول واحد، وتتجه إلى قبلة واحدة.
فالمسلمون يتعلمون من وحدة القبلة، وحدة الأمة في الهدف والغاية، وأن الوحدة والاتحاد ضرورة في كل شئون حياتهم الدينية والدنيوية، قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]
- قبلتنا تذكرنا بتخليص القلوب من نعرات الجاهلية
- كان العرب يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم، ولما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله وتجريدها من التعلق بغيره، وتخليصها من كل نعرةٍ، وكل عصبيةٍ لغير منهج الله تعالى، فقد انتزعهم من الاتجاه إلى البيت الحرام، وشاء لهم الاتجاه إلى المسجد الأقصى لفترةٍ ليست بالقصيرة، وما ذاك إلا ليخلِّص نفوسهم من رواسب الجاهلية.
ثم لمَّا خلصت النفوس وجَّهها الله تعالى إلى قبلةٍ خاصةٍ تخالف قبلة أهل الديانات السماوية الأخرى.
وقد وصف الله تعالى هذه القدرة على تخليص النفوس بأنها "كبيرة" وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ"(البقرة: 143) .
- قبلتنا تذكرنا بحقيقة الصراع بيننا وبين أهل الكتاب
قال تعالى في معرض حديث الآيات عن القبلة { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } [البقرة: 145]
من دروس حادثة تحويل القبلة المهمة، أنها وضَّحتْ للمسلمين طبيعة غير المسلمين- من يهود ونصارى وغيرهم- وأنهم لن يرضوا أبدا عن المسلمين إلا أن يتبعوهم ويكونوا مثلهم، قال الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]
وهنا ندرك أصالة عدوان هؤلاء للإسلام والمسلمين، فقد شنوا حربًا إعلامية ضارية في أعقاب حدث تحويل القبلة، ولقد فُتن ضعاف الإيمان كما فُتن إخوانهم في حادث الإسراء والمعراج، وإن المتأمل لآيات تحويل القبلة - وهي تردُّ شبهات اليهود - يتبين له مدى ضراوة الحرب الإعلامية والفكرية التي شنَّها اليهود، وما زالوا إلى اليوم يسيطرون على القنوات والأبواق الإعلامية المسموعة والمرئية، وكلُّ همهم هو تشويه صورة المسلمين وتشتيت شملهم، وحالهم كما قال الله تعالى { وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا } [المائدة: 64]
وأخيرًا قبلتنا تذكرنا: أن مَن عاش على القبلة مات عليها
عن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي، قال: اشتدَّ وجعُ سعيد بن المسيب، فدخل عليه نافع بن جبير يعوده، فأُغمي عليه، فقال نافع: وجهوه إلى القبلة. ففعلوا، فأفاق، فقال: مَن أمركم أن تُحوِّلوا فراشي إلى القبلة، أنافعٌ؟ قال: نعم. قال له سعيد: لئن لم أكن على القبلة والملة والله لا ينفعني توجيهُكم فراشي. "سير أعلام النبلاء "
اللهم اغفرلنا وارحمنا يارب العالمين