لويعطى الناس بدعواهم لادَّعى رجالٌ أموالَ قومٍ ودماءَهم
الحِكمةُ في كَونِ البيِّنةِ على المُدَّعِي واليمينِ على المُدَّعَى عليه
عن ابن عَبَّاسٍ رضي اللُه عنهما:"أن رسولَ الله صلى الله عليه
وسلم قال:"لو يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لادَّعَى رِجَالٌ أموالَ
قَوْمٍ ودِماءَهُمْ، لَكِنِ البَيِّنَةُ على المُدَّعِي والْيَمينُ على من
أَنْكَرَ"(الْبَيْهقي وغيرُهُ هكذا، وبَعْضُهُ في
الصحِيحَين).
هذا الحَديثُ يَتضمَّنُ أصلًا كبيرًا في القَضاءِ، وهو أنَّ اليَمينَ على المُدَّعَى عليه، كما أنَّ البيِّنَةَ على المُدَّعِي؛ حيثُ يَقولُ التَّابعيُّ عبدُ اللهِ بنُ أبي مُليكةَ: "كنْتُ قاضيًا لابنِ الزُّبيرِ على الطَّائفِ" وذلك في زَمانِ خِلافةِ عبدِ اللهِ بنِ الزُّبيرِ وتَغلُّبِه على الحِجازِ، والطَّائفُ حاليًا: مدينةٌ سُعوديَّةٌ تقَعُ في منطقةِ مكَّةَ المُكرَّمةِ غَرْبَ السُّعوديةِ على المُنحدراتِ الشَّرقيَّةِ لجِبالِ السرواتِ، وكانت بها قَبيلةُ ثَقِيفَ حينئذٍ،"فذكَرَ قِصَّةَ المرأتينِ"، وقد ذكَرَها البُخاريُّ في الصَّحيحِ: "أنَّ امرأتينِ كانَتَا تَخرِزان"،أي: تَخيطانِ، "فى بَيتٍ أو في الحُجرةِ، فخرَجَتْ إحداهما وقد أُنفِذَ بإِشْفًى في كَفِّها".
أي: ضرَبَتْ في كفِّها بآلةِ الخِياطةِ الَّتي تُشبِهُ الإبرةَ الكبيرةَ، "فادَّعَتْ على الأُخرى"، أي: إنَّها أصابَتْها وجرَحَتْها، فأنكَرَتْ، قال ابنُ أبي مُليكةَ: "فكتَبْتُ إلى ابنِ عبَّاسٍ"، أي: راسلَه في أمْرِ هذه القَضيةِ، "فكتَبَ إليَّ: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال:"لو يُعْطَى النَّاسُ بدَعواهم".
أي: بادِّعائهم وزَعْمِهم، "لَادَّعى رِجالٌ أموالَ قَومٍ ودِماءَهم، ولكنَّ
البيِّنةَ على المُدَّعِي، واليمينَ على مَن أنكَرَ"، وبَيانُ ذلك: أنَّه لوِ
اختصَمَ رَجلانِ، وادَّعى أحدُهما أنَّ له على الآخَرِ مالًا، فهذا الرَّجلُ
المُدَّعِي إنَّما يجِبُ عليه البَيِّنةُ، فإذا لم يأْتِ بالبيِّنةِ، فإنَّ
الرَّجلَ الآخَرَ المُدَّعَى عليه ليس عليه إلَّا اليمينُ، فيَحلِفُ على خِلافِ ما
ادَّعاهُ عليه المُدَّعِي.
الحِكمةُ في كَونِ البيِّنةِ على المُدَّعِي واليمينِ على المُدَّعَى عليه:
أنَّ جانِبَ المُدَّعِي ضَعيفٌ؛ لأنَّه يقولُ خِلافَ الظَّاهرِ، فكُلِّفَ الحُجَّةَ القَوِيَّةَ، وهي البيِّنةُ، وهي لا تَجلِبُ لِنفْسِها نفْعًا ولا تَدفَعُ عنها ضَررًا، فيُقَوَّى بها ضَعْفُ المُدَّعِي، وجانِبُ المُدَّعى عليه قويٌّ؛ لأنَّ الأصلَ فَراغُ ذِمَّتِه، فاكْتُفِيَ فيه بحُجَّةٍ ضَعيفةٍ، وهي اليمينُ؛ لأنَّ الحالِفَ يَجلِبُ لِنفْسِه النَّفعَ ويَدفَعُ عنها الضَّررَ، فكانَ ذلك في غايةِ الحِكمةِ.
أهمية الحديث:
قال ابن دقيق العيد: وهذا الحديث أصل من أصول الأحكام، وأعظم مرجع عند التنازع والخصام.
وقال الشيخ السعدي رحمه الله:"هذا الحديث عظيم القدر، وهو أصل من أصول القضايا والأحكام، فإن القضاء بين الناس إنما يكون عند التنازع، هذا يدعي على هذا حقًّا من الحقوق فينكره، وهذا يدعي براءته من الحق الذي كان ثابتًا عليه، فبيَّن صلى الله عليه وسلم أصلًا بفض نزاعهم، ويتضح به المحق من المبطل، فمن ادعى عينًا من الأعيان، أو دينًا، أو حقًّا من الحقوق وتوابعها على غيره، وأنكره ذلك الغير، فالأصل مع المنكر. فهذا المدعي إن أتى ببينة تُثبت ذلك الحق، ثبت له، وحُكمَ له به، وإن لم يأت ببينة، فليس له على الآخر إلا اليمين".
مفردات الحديث:
لو يعطى الناس:"ما ادعوا أنه حقهم وطالبوا به.
البَيِّنَةُ:"هي الشهود، مأخوذة من البيان وهو
الكشف والإظهار، أو إقرار المُدَّعَى عليه وتصديقِهِ للمُدَّعِي، والبينة: هي اسم
لكل ما يبين الحق ويظهره، فيدخل الشهود والإقرار والقرائن الدالة وفهم القاضي
باختبار.
على المُدَّعِي:"وهو من يدعي الحق على غيره ويُطالبه به، وقالوا:"المدَّعِي: هو من إذا سكت تُرِكَ، والمدَّعَى عليه: هو من إذا سكت لم يُترَك.
فوائد الحديث:
حرص الشريعة على حفظ أموال الناس ودمائهم.
يبني القاضي حكمه على ما يظهر له.
على الحاكم أن يبذل جهده في المسألة.
أن اليمين على المُدَّعى عليه مطلقًا.
من ادعى بشيءٍ على إنسان فلا بدَّ له من البينة.
قال النووي رحمه الله: هذه اليمين تُسمَّى يمين الصبر وتُسمَّى الغموس، وسُمِّيت يمين الصبر؛ لأنها تحبس صاحب الحق عن حقِّه.