ست
نداءات من سورة الحجرات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد فنقف اليوم مع سورة الحجرات
وهي مدَنيّة، وهي مدرسة متكامِلة تربّى في ضوئها أصحاب محمّد صلي الله عليه وسلم
، فإنها مع قصرها وقلّة عدد آياتها جاءت شاملة لأحكامٍ وآداب وأوامرَ ونواهٍ لا تجدها
مجتمعة في سورة سواها.
سورة
الحجرات مدرسة متكامِلة جاءت تربّى الفرد والمجتمع بل الأمة جميعًا على سموّ
الأخلاق وفضائل الأعمال وعلوّ الهمم.
تضمنت أسباب الحفاظ على تماسك المجتمع وترابط
لَبِناته من التمزق والانهيار، ابتدأت بنداء الإيمان؛ لأن المؤمنين هم الذين
يستجيبون لهذه الخصال بما يدعوهم إليه الإيمان من التصديق والانقياد لأمر الله
وأمر رسوله صلي الله عليه وسلم ، والآداب والأخلاق من لوازم الإيمان، فالإيمان
والأخلاق قرينان لا يرتفع أحدهما إلا ويرتفع الآخر، ومن زاد عليك خلقا فقد زاد
عليك إيماناً، وحسن الخلق من أسباب دفع العداوة بين أفراد المجتمع قال
تعالى:"وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ
حَمِيمٌ"(فصلت/34).
عباد
الله : في ثنايا هذه السورة المباركة جاءت ستة نداءات: خمسة منها جاء المنادَى
فيها موصوفًا بوصف الإيمان، أما النداء السّادس فقد جاء عامًّا للناس كلّهم.
أول هذه الأسباب وأهمها:
الأدب مع الله تعالى والأدب مع رسوله صلي الله عليه وسلمبالتعظيم والاحترام والتصديق والانقياد،
فأول هذه النداءات هو قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"(الحجرات:1). قال حبر الأمّة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس في معنى الآية: "لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة"، وقال مجاهد: "لا تفتاتوا على رسول الله بشيء حتى يقضيَه الله على لسانه"، وقال الضحاك: "لا تقضوا أمرًا دون الله ورسوله من شرائع دينكم".
فهذا أدب نفسيّ عظيم مع الله ورسوله، وهو منهج في التلقّي والتنفيذ، وهو أصل من أصول التشريع والعمل في الوقت ذاته، وهو منبثق من تقوى الله وراجع إليها.
فمقتضى الإيمان بالله والإيمان برسوله صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم تصديق خبر الله وخبر رسوله صلي الله عليه وسلم وامتثال أمر الله وأمر رسوله صلي الله عليه وسلم واجتناب ما نهى الله عنه وما نهى عنه رسوله صلي الله عليه وسلم
فمنهج
التلقي والاستدلال عندنا هو كلام الله تعالى وكلام رسوله صلي الله عليه وسلم لا
نقدم عليهما كلام أحد كائناً من كان، وهذا الأدب هو الأساس الذي تُبنى عليه سائر
الآداب، ويُرجع إليه عند الاختلاف، وتكمن أهمية هذه المرجعية في ضبط أي خلاف يحدث بين أفراد المجتمع "فَإِن تَنَازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا"(النساء/59)، وعلى قدر
تحقق هذه المرجعية العليا علماً وعملاً يكون تماسك المجتمع المسلم.
ومقياس
من حقق ذلك حقا أن يظهر في قوله وعمله عند الامتحان العملي "يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا
تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ"؛ فمن كان ذلك
خلقه فـ "أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ"،
وأما من خالف ذلك بسلوكه وقوله "إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ
الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ"؛ فمن نقص أدبه مع الله ومع رسوله
صلي الله عليه وسلم فهذا دال على نقصان
العقل، لأن كمال الأدب من كمال العقل.
وما
نراه ونسمعه من الذين يتطاولون على ثوابت الدين وسنة رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- لهو من أعظم أسباب تمزق المجتمعات، ولازالت محاولات الطعن في هذه المرجعية
وهذه الثوابت -بتقديم الأفكار الضالة والأهواء المخالفة وجمع الناس عليها، بل وفتح
الباب لها بالتوغل بين أفراد المجتمع، لتشتيت أفراده ما بين أفكار التشيع والتصوف
فضلاً عن أفكار التكفير والتفجير- لا تزال هذه المحاولات مستمرة لتفكيك المجتمعات
المسلمة وتشويه أفراد المجتمع، فتنبت فيه نتوءات تزعزع تماسكه وترابطه واستمساكه
بحبل الله تعالى الذي هو الوحي المنزل "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا".
تحقيق الأدب مع الله تعالى ومع رسوله -صلى الله عليه وسلم- ليس مجرد شعار يُحتفل به، بل حقيقة عملية يتربى عليها المجتمع المسلم"إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)، حتى تصير سمة عامة لكل أفراد المجتمع، بترسيخ مبادئ الشريعة الإسلامية وتعظيمها، والحفاظ على ديانة أفراد المجتمع ظاهراً بالحفاظ على المظهر العام للإسلام، وباطناً بالقبول والانقياد تعظيماً وحباً لكتاب الله ولسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى فهم الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين-.
أيها
الإخوة، يقول عبد الله بن مسعود :"إذا سمعتَ الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا فأرعها سمعك، فإنما هو أمر تؤمَر به، أو نهي تُنهَى عنه، أو خبر تخبَر
به".
وان
حقيقة الإيمان في ضوء سورة الحجرات قال الله تعالى فيها "إنما المؤمنون الذين
آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم
الصادقون"(الحجرات:15).
هذه هي
حقيقة الإيمان كما بينها القرآن ناصعة كضياء الصبح واضحة كشعاع الشمس حتى لا تختلط
علينا الأمور وتلتبس الحقائق وحتى نعرف مواقعنا ونتبصر بحقائقنا كما نعرف مواقع
الآخرين ونتبصر بحقائقهم. ليس كل من ادعى أنه مؤمن فهو كذلك قد يكون مسلماً أي
يكون مستسلماً لحكم الإسلام الظاهر قائماً بالأعمال الظاهرة ولكن قلبه خواء ليس
فيه من الإيمان شيء. وما أكثر من يحمل اسم الإسلام وقلبه مظلم بظلمات الكفر
والإلحاد
وما أكثر كذلك من يحمل اسم الإسلام وفي قلبه إيمان ضعيف ذبالة ضعيفة تكاد تنطفئ وقد حاصرتها ظلمات الشك والارتياب وظلمات الشبهات
وحين
نتأمل حال الصحابة الذين شهدوا التنزيلَ نرى كيف كان أدبهم في هذا الأمر مع الله
ورسوله، جاء في حديث أبي بكرَة نفيع بن الحارث الثقفي أنّ النبي سأل في حجة
الوداع: "أي شهر هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنّه سيسميه بغير
اسمه فقال "أليس ذا الحجة؟" قلنا بلى، قال: "أيّ بلد هذا؟" قلنا: الله ورسوله
أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال:"أليس البلدة الحرام؟" قلنا
بلى، قال: "فأيّ يوم هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه
بغير اسمه فقال: ((أليس يوم النحر؟"قلنا: بلى... الحديث.
فهذه
صورة من الأدب ومن التحرّج ومن التقوَى التي انتهى المسلمون إليها بعد سماعهم ذلك
النداء وذلك التوجيه وتلك الإشارة إلى التقوى للسميع العليم.
وهذا
مقتضى العبودية لله تعالى، فلا يُقَدِّمَ هوَى نفسه أو غيره على أمر الله تعالى
وحكمه( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا [الأحزاب:36]
ولقد
كان الصحابة أعظمَ من غيرهم انتفاعًا بالدليل والوحي وتسليمًا له لنزاهة قلوبهم
وخلوِّها من كلِّ ميل أو هوى غير ما جاءت به النصوص واستعدادِها التامِ لقبول ما
جاء عن الله ورسوله والإذعانِ والانقياد له انقيادًا دون حرج ولا تردّد ولا إحجام.
قال
تعالي ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ
بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
يُقْسِمُ
تَعَالَى بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ الْمُقَدَّسَةِ: أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ
حَتَّى يُحَكم الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ
الْأُمُورِ، فَمَا حَكَمَ بِهِ فَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَجِبُ الِانْقِيَادُ لَهُ
بَاطِنًا وَظَاهِرًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أَيْ: إِذَا حَكَّمُوكَ
يُطِيعُونَكَ فِي بَوَاطِنِهِمْ فَلَا يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا
حَكَمْتَ بِهِ، وَيَنْقَادُونَ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَيُسَلِّمُونَ
لِذَلِكَ تَسْلِيمًا كُلِّيًّا مِنْ غَيْرِ مُمَانِعَةٍ وَلَا مُدَافِعَةٍ وَلَا
مُنَازِعَةٍ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا
يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ".
اخرج
الْبُخَارِيُّ عَنْ عُرْوَة قَالَ: خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا فِي شُرَيج مِنَ
الحَرَّة، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْقِ يَا
زُبير ثُمَّ أرْسل الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ" فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّن وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: "اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ
احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الجدْر، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى
جَارِكَ" وَاسْتَوْعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِلزُّبَيْرِ حَقّه فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ، حِينَ أَحْفَظَهُ الْأَنْصَارِيُّ،
وَكَانَ أَشَارَ عَلَيْهِمَا بِأَمْرٍ لَهُمَا فِيهِ سَعَةٌ. قَالَ الزُّبَيْرُ:
فَمَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ إِلَّا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {فَلا وَرَبِّكَ لَا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الْآيَةَ.
أيها
الإخوة، من الناس من يردُّ الأحاديث الصحيحة بل المتواترة أحيانًا بحجّة مخالفتها
للعقل فهذا من أعظم المقدِّمين بين يدي الله ورسوله، وفي الحقيقة لو كان عقله
سليمًا لما وجد تعارضًا بينه وبين النصّ الشرعي؛ لأنهما صادران عن الله، فلا يمكن
أن يعارض صحيح المنقول صريح المعقول.
رويَ
ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: عَنْ أَبِي الْأُسُودِ قَالَ: اخْتَصَمَ رَجُلَانِ إِلَى
رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فقضى بَيْنَهُمَا، فَقَالَ الَّذِي قُضِيَ
عَلَيْهِ: رُدَّنَا إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "انْطَلِقَا إِلَيْهِ" فَلَمَّا أَتَيَا
إِلَيْهِ قَالَ الرَّجُلُ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، قَضَى لِي رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا، فَقَالَ: رُدَّنَا إِلَى عُمَرَ.
فَرَدَّنَا إِلَيْكَ. فَقَالَ: أَكَذَاكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ فَقَالَ عُمَرُ:
مَكَانَكُمَا حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكُمَا فَأَقْضِيَ بَيْنَكُمَا. فَخَرَجَ
إِلَيْهِمَا مُشْتَمِلًا عَلَى سَيْفِهِ، فَضَرَبَ الَّذِي قَالَ رُدَّنا إِلَى
عُمَرَ فَقَتَلَهُ، وَأَدْبَرَ الْآخَرُ فَارًّا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَتَلَ عُمَر وَاللَّهِ صَاحِبِي، وَلَوْلَا أَنِّي
أعجزتُه لَقَتَلَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يَجْتَرِئَ عُمَر عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ"
فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ}
الْآيَةَ، فَهَدَرَ دَمَ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَبَرِئَ عُمَرُ مِنْ قَتْلِهِ،
فَكَرِهَ اللَّهُ أَنْ يُسَنَّ ذَلِكَ بَعْدُ ) تفسير بن كثير
مع النداء الثاني: النهي عن رفع الصوت عند النبي وعن الجهر
له بالقول.
ايها
الأخوة : نتأمل النداء الإلهي الثاني في سورة الحجرات، وهو قول الله تبارك وتعالى :"يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ
وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ
أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ "(الحجرات:2).
وفي
الصحيحين عن أنس بن مالك أن النبي افتقد ثابت بن قيس فقال رجل: يا رسول الله، أنا
أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالسا في بيته منكِّسا رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال:
شرّ، كان يرفع صوته فوق صوت النبي فقد حبط عمله وهو من أهل النار، فأتى الرجل
النبي فأخبره أنه قال: كذا وكذا، فقال موسى بن أنس بن مالك: فرجع إليه المرة
الآخرة ببشارة عظيمة، فقال:"اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكنك
من أهل الجنة"، قال أنس : فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل
الجنة. فهنيئًا له ثم هنيئًا له.
قال
ابن كثير رحمه الله: "قال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره كما كان يكره في
حياته؛ لأنه محترم حيًا وفي قبره ، وقد روِّينا عن عمر بن الخطاب أنه سمع صوتَ
رجلين في مسجد النبيّ قد ارتفعت أصواتهما، فجاء فقال: أتدريان أين أنتما؟! ثم قال:
مِن أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما
ضربًا". ولهذا فإنه ينبغي على الإنسان أن يتأدب مع سنّته وحديثه حين يسمعه أو
يقرأه أو يكتبه.
ولله
در مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله، فلم يكن يحدّث بحديث رسول الله إلا
اغتسل وتبخر وتطيّب وجلس على صدر فراشه وسرّح لحيته وتمكن من جلوسه بوقار وهيبة،
ثم يقول: أحبّ أن أعظِّم حديث رسول الله ولا أحدث به إلا على طهارة متمكّنًا، وإذا
رفع أحد صوته عنده قال: اغضض من صوتك فإن الله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، فمن رفع
صوته عند رسول الله فكأنما رفع صوته فوق صوت رسول الله ، وقال: حرمته حيًّا
ومَيْتًا سواء. ولذلك فما أعظم إثم من يعارض سنّته بعَقله ورأيه، وما أسوأ أدب من
يناوئ الذّابين عنها وينتقصها ويهزئ بها وبأهلها كما نسمَع ونقرأ ونشاهد.
مع النداء الثالث الأمر بالتبين في الأخبار
أيها
الإخوة المؤمنون، ها نحن اليوم نتدبّر نداء ربنا الثالث في سورة الحجرات: "يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ
تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ "(الحجرات:6).
جاء في
سبب نزول هذه الآية ما رواه الإمام أحمد بسنده عن الْحَارِثَ بْنَ أَبِي ضِرَارٍ
الْخُزَاعِيِّ، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَدَعَانِي إِلَى الْإِسْلَامِ، فَدَخَلْتُ فِيهِ، وَأَقْرَرْتُ بِهِ،
فَدَعَانِي إِلَى الزَّكَاةِ، فَأَقْرَرْتُ بِهَا، وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
أَرْجِعُ إِلَى قَوْمِي، فَأَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ،
فَمَنْ اسْتَجَابَ لِي جَمَعْتُ زَكَاتَهُ، فَيُرْسِلُ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا لِإِبَّانِ كَذَا وَكَذَا لِيَأْتِيَكَ مَا
جَمَعْتُ مِنَ الزَّكَاةِ، فَلَمَّا جَمَعَ الْحَارِثُ الزَّكَاةَ مِمَّنْ
اسْتَجَابَ لَهُ، وَبَلَغَ الْإِبَّانَ الَّذِي أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْعَثَ إِلَيْهِ، احْتَبَسَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ،
فَلَمْ يَأْتِهِ، فَظَنَّ الْحَارِثُ أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ فِيهِ سَخْطَةٌ مِنَ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ، فَدَعَا بِسَرَوَاتِ قَوْمِهِ، فَقَالَ
لَهُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ وَقَّتَ لِي
وَقْتًا يُرْسِلُ إِلَيَّ رَسُولَهُ لِيَقْبِضَ مَا كَانَ عِنْدِي مِنَ
الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْخُلْفُ، وَلَا أَرَى حَبْسَ رَسُولِهِ إِلَّا مِنْ سَخْطَةٍ كَانَتْ،
فَانْطَلِقُوا، فَنَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلِيدَ بْنَ
عُقْبَةَ إِلَى الْحَارِثِ لِيَقْبِضَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِمَّا جَمَعَ مِنَ
الزَّكَاةِ، فَلَمَّا أَنْ سَارَ الْوَلِيدُ حَتَّى بَلَغَ بَعْضَ الطَّرِيقِ،
فَرِقَ، فَرَجَعَ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْحَارِثَ مَنَعَنِي الزَّكَاةَ، وَأَرَادَ
قَتْلِي، فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَعْثَ
إِلَى الْحَارِثِ، فَأَقْبَلَ الْحَارِثُ بِأَصْحَابِهِ إِذْ اسْتَقْبَلَ
الْبَعْثَ وَفَصَلَ مِنَ الْمَدِينَةِ، لَقِيَهُمُ الْحَارِثُ، فَقَالُوا: هَذَا
الْحَارِثُ، فَلَمَّا غَشِيَهُمْ، قَالَ لَهُمْ: إِلَى مَنْ بُعِثْتُمْ؟ قَالُوا:
إِلَيْكَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ بَعَثَ إِلَيْكَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ، فَزَعَمَ أَنَّكَ
مَنَعْتَهُ الزَّكَاةَ، وَأَرَدْتَ قَتْلَهُ قَالَ: لَا، وَالَّذِي بَعَثَ
مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، مَا رَأَيْتُهُ بَتَّةً، وَلَا أَتَانِي فَلَمَّا دَخَلَ
الْحَارِثُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
«مَنَعْتَ الزَّكَاةَ، وَأَرَدْتَ قَتْلَ رَسُولِي؟» قَالَ: لَا، وَالَّذِي
بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا رَأَيْتُهُ، وَلَا أَتَانِي، وَمَا أَقْبَلْتُ إِلَّا
حِينَ احْتَبَسَ عَلَيَّ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، خَشِيتُ أَنْ تَكُونَ كَانَتْ سَخْطَةً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
وَرَسُولِهِ. قَالَ: فَنَزَلَتِ الْحُجُرَاتُ :"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا
بِجَهَالَةٍ، فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ"(الحجرات: 6).
أيها
الإخوة المؤمنون، هذه الآية الكريمة ترسِم لنا منهجًا عظيمًا في شأن تلقّي
الأخبار، وبالأخص في هذا العصر الذي نرى فيه السباق المحموم لنقل الأخبار والأحداث
ساعةً بساعة، بل لحظة بلحظة، في عالم قد اتّصل شرقه بغربه وتقارب أقصاه من أدناه،
تملأ سماءه فضائيات وقنوات وتغصّ أرضه بصحف ومجلات، ناهيك عن عجيبة هذا العصر شبكة
المعلومات العالمية المسماة بالإنترنت.
أيّها
المسلمون، إن الذي يتعيَّن هو اعتمادُ أخبار الثقات العدول والبعدُ عن السّماع مِن
الفسّاق والمجاهيل والمتسرّعين ومَن عُرِف بكثرةِ نقل الأخبارِ من غيرِ تثبّت ومَن
عُرف كذلك بالمبالغَة في التفسيرات والتحلِيلات والفهوم البعيدة، كما ينبغِي صونُ
اللسان في أوقاتِ الفتَن والأجواء التي تروج فيها الشائعاتُ والأراجيف، بل إنَّ
العقل والإيمانَ ليدعُوان صاحبَهما إلى الموازنة بين مصلحةِ الكلام ومصلحةِ
الصّمت، فليس الكلامُ خيرًا دائمًا، وليس الصمت بِرًّا دائمًا، وفي الحديث الصحيح
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ :"من كان يؤمن بالله واليوم
الآخر فليقُل خيرًا أو ليصمُت"، فليس ثَمَّ إلا طريقان: إما خيرٌ تقوله، أوصمت
تلتزِمه.
وروى
مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : "كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل
ما سمع"، وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة قال: نهى رسول الله عن قيل وقال،
و"قيل وقال" أي: كثرة الحديث وكثرة الكلام دون رويّة ولا تدبر ولا تثبت
ولا تبيّن. وفي سنن أبي داود أن النبي قال: "بئس مطية الرجل: زعموا"، وهذه هي
التي سماها بعض أهل العلم من المعاصرين: "وكالة يقولون"، فترى كثيرًا من
الناس يتناقلون الأحاديث والشائعات والأخبار دون رويّة ولا تثبّت، وقد يسهمون بذلك
بفتّ عضد المسلمين وضعضعة معنوياتهم وبثّ الرعب في قلوبهم، فيخدمون من حيث لا
يشعرون أهدافَ العدو، فيضعفون المعنويات ويلقون الرعب في القلوب.
مع النداء الرابع: النهي عن السخرية واللمز والنبز.
اسمع
هذا النداء الرباني في هذه السورة المباركة وعِش معه بقلبك وقالبك وانظر أين أنت
منه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ
يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا
مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ
الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ
الظَّالِمُونَ"(الحجرات:11).
ثلاثة
نواهٍ تضمّنتها الآية: أوّلها النهي السخرية، ثانيها النهي عن اللمز، أما الثالث
فهو النهي عن التنابز بالألقاب، يكفينا في ذلك حديث أبي هريرة في صحيح مسلم عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا،
وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا
الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا
يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ "بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ
الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ"
والعِرض
هو محلّ الذم أو المدح من الإنسان، فإذا اغتبتَ إنسانًا فقد نِلت من عِرضه، وإذا
نممت على إنسان فقد جرحتَ عرضه، وإذا سخرت منه فقد انتقصتَ من عرضه، "كل المسلم
على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه".
وفي
خطبة حَجة الوداع لم يغفل رسول الله عن هذه القضية المهمة في بناء المجتمع المسلم،
فلقد كانت ركنًا ركينًا، وقف يوم الحج الأكبر قال: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم
عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا"، ولم يكتف بذلك بل قال
أخيرًا: "ألا هل بلغت؟" قالوا: نعم، قال: "اللهم فاشهد".
أيّها
الإخوة المؤمنون [وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ 11] فهو تعبير ربّاني لا يقدر عليه
البشر؛ لأنك عندما تلمِز أخاك وتعيبه إنما تعيب نفسَك؛ لأن المؤمن للمؤمن كالبنيان
اللمز
والهمز ذكِر في كتاب الله كثيرًا، واللمز هو المعيبة باللسان، والهمز بغير اللسان
كالإشارة باليد أو العين أو غير ذلك، وقيل: اللمز في الوجه، والهمز في الغَيبة،
قال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة:1]، وقال سبحانه ( وَلا
تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ
مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ [القلم:10-13].
وتتبّع
عورات المسلمين باللمز والهمز علامة على النفاق وليست علامة الإيمان، "ليس
المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذي"، وفي البخاري عن بلال بن
الحارث قال: قال رسول الله : ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله عز وجل، ما
يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم القيامة. وإن الرجل
ليتكلم بالكلمة من سَخط الله عز وجل، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عز وجل
بها عليه سخطه إلى يوم القيامة)).
يُلقي
الرجل الكلمةَ لا يُلقي لها بالاً ، يريد أن يملأ فراغه ويضحِك خلاّنه أو يسرّ
الذين يسامرونه، فيسخر من أخيه المسلم أو يقع في عرضه همزًا أو لمزًا، هذه الكلمة
قد يكتب الله بها عليه سخطه إلى يوم القيامة، قال علقمة : "كم من كلام
منَعَنيه حديث بلال بن الحارث أن أقوله".
قالت
عائشة رضي الله عنها يومًا يا رسول الله، حسبك من صفيّة كذا وكذا، تعني أنها
قصيرة، فقال : ((لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته))، لو اختلطت بماء البحر
لأنتَن البحر كلّه، هذه الكلمة ـ إنها قصيرة وهي تُرى قصيرة ـ أنتنت ماء البحر لو
مزجت به، فكيف بكثير مما نقوله صباح مساء؟!
أيها
الإخوة، ثلاث نواه السخرية واللمز والتنابز بالألقاب، ونتيجة أي واحدة من الثلاث
وجزاؤها شيئان عند الله: تأخذ من الله اسمين وتفقد اسمًا عظيمًا، كان اسمك عند
الله مؤمنا فأعطاك الله بدله اسم الفاسق، وإذا لم تتب مسرعًا فيعطيك لقبًا آخر وهو
الظلم ( بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ
فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11] هل اشتريت باسم المؤمن عند الله اسم
الفاسق؟! بعت اسم المؤمن واشتريت اسم الفاسق والظالم معا، بماذا؟! بهمزات لسان
وومضات شفاه أو لحظات عين، تعس من تخلى عن اسم مؤمن ونال من ربه تعالى الذي لا
معقب لكلماته ولا راد لقوله ولا معقب على حكمه اسمين اثنين: اسم الفسق واسم الظلم،
أيُّ لعنة هذه البيعة التي بعت بها إيمانًا واشتريت بها فسقًا وظلما؟!
أيها المؤمنون، لقد حفلت نصوص الشرع بالتحذير من زلات اللسان وبيان خطورته وما يجره على صاحبه من ويلات ومهالك، قال تعالى "مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ"(ق:18)، وقال سبحانه: سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا"(آل عمران:181).
وقال عز شأنه: وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ"(النور:15)،
وحث على حفظ اللسان وصيانة
المنطق ومجانبة الفحش والبَذاء فقال جل وعلا: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ
لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53]، وقال النبي لمعاذ: "أمسك عليك هذا" وأشار إلى لسانه، فقال معاذ: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا
حصائد ألسنتهم؟!" وحصائد الألسن جزاء الكلام المحرّم وعقوباته. وروى الترمذي عن
أبي سعيد الخدري عن النبي أنه قال: "إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفِّر
اللسان تقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت
اعوججنا" قال النووي رحمه الله:"تكفر اللسان" أي: تذل له وتخضع".
ولقد كان خوف السلف الصالح من آفات اللسان عظيمًا، فهذا أبو بكر كان يخرج لسانه ويقول: (هذا الذي أوردني شر الموارد)، وكان ابن عباس يأخذ بلسانه ويقول: (ويحك، قل خيرا تغنم، أو اسكت عن سوء تسلم، وإلا فإنك ستندم)، فقيل له: يا ابن عباس، لم تقول هذا؟ قال:"إنه بلغني أن الإنسان ليس على شيء من جسده أشد حَنَقًا أو غيظًا منه على لسانه إلا من قال به خيرًا أو أملى به خيرًا"، وكان ابن مسعود يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما على الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان، وقال الحسن: "اللسان أمير البدن، فإذا جنى على الأعضاء شيئا جنت، وإذا عفّ عفت"،
وقال عمر : "من
كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى
به"، وكان طاووس رحمه الله يعتذر من طول السكوت ويقول: "إني جربت لساني
فوجدته لئيما وضيعا"، وقال أحد السلف: "إن ترك فضول الكلام والطعن في
الناس أشق على النفس من قيام الليل"، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله:
"كان بعض أصحابنا يحفظ كلامه من الجمعة إلى الجمعة".
أيها
المؤمنون، حفظ المرء للسانه وقلّة كلامه عنوان أدبه وزكاء نفسه ورجحان عقله، كما
قيل في مأثور الحكم: "إذا تم العقل نقص الكلام"، وقال بعض الحكماء:
"كلام المرء بيان فضله وترجمان عقله، فاقصره على الجميل، واقتصر منه على
القليل".
إذا
شئت أن تحيا سليما من الأذى…وحظك موفورٌ وعرضك صيّن
لسانك
لا تذكر به عورة امرئٍ…فكلّك عوراتٌ وللناس ألسن
وعينك
إن أبدت إليك معايبا…يومًا فقل يا عين للناس أعين
فصاحب
بمعروفٍ وسامح من اعتدى…وفارق ولكن بالتي هي أحسن
مع النداء الخامس: النهي عن الظن السيئ والتجسس والغيبة.
ثلاثة
آداب أخرى في سورة الأخلاق والآداب، يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ
أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ
رَحِيمٌ"(الحجرات:12).
أيها
المؤمنون، لقد ذكِر الظن في القرآن الكريم في ستٍّ وخمسين موضعًا، منها تسعة
وأربعون جاء في سياق الذم، وسبعة مواضع في سياق المدح، وأما الموضع السادس
والخمسون فجاء في وصف حال المحتضَر عند موته في قوله تعالى: وَظَنَّ أَنَّهُ
الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ"(القيامة:28-30)، فلم يذكَر فيه ذمّ ولا ثناء، إنما هو وصفُ حال.
ولعل
هذا الحصر لهذه الكلمة وتَكرارها في القرآن على هذا النحو يشير إلى أن أغلب الظن
مما يذمّ ولا يمدح. حدَّث أبو هريرة أن رسول الله قال:"إياكم والظن؛ فإن الظن
أكذب الحديث"(البخاري)، وعن عبد الله بن عمر قال: رأيت النبي يطوف بالبيت
ويقول:"ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك. والذي نفس محمد بيده، لحرمة
المؤمن أعظم عند الله حرمةً منك؛ دمه وماله وأن لا يظنَّ به إلا خيرًا"
أيها
المؤمنون، كثيرًا ما يطرق سمعك في مجالس المسلمين العامة والخاصة أن فلانًا يقصد
كذا وفلانًا نوى كذا وفلان أراد من فعله أو قوله كذا، سوءُ ظنٍّ مَقيت يؤجِّج
مشاعر الحقد والكراهية، يهدم الروابط الاجتماعية، يزلزل أواصر الأخوة، يقطع حبال
الأقربين ويزرع الشوك بين أفراد المجتمع.
إذا
تسرّب سوء الظن إلى النفوس أدّى بها إلى الاتّهام المتعجّل وتتبّع العورات وتسقّط
الهفوات والتجسّس الدنيء؛ ولذا ترى من يسيء الظنَّ يقول: سأحاوِل أن أتحقّق،
فيتجسّس وقد يغتاب وقد يذكر أخاه بسوء، فيرتكب ذنوبًا مترادِفة ومعاصيَ قاصِمة.
قال
تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ
بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ، دل سياق الآية على الأمر بصون عِرض المسلم غايةَ الصيانة
لتقدُّم النهي عن الخوض فيه بالظن، فإن قال الظان: أبحث لأتحقّق، قيل له: وَلا
تَجَسَّسُوا، فإن قال: تحققتُ من غير تجسّس، قيل له: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ
بَعْضًا.
قال
أهل العلم: إن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، ولا حرج في الظن القبيح بمن
ظاهره القبح.
روَي عَنْ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثَلَاثٌ لَازِمَاتٌ لِأُمَّتِي:
الطِّيَرَةُ، وَالْحَسَدُ، وَسُوءُ الظَّنِّ ". فَقَالَ رَجُلٌ: مَا
يُذْهِبُهُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ مِمَّنْ هُوَ فِيهِ؟ قَالَ: "إِذَا حَسَدْتَ
فَاسْتَغْفَرِ اللهَ، وَإِذَا ظَنَنْتَ فَلَا تُحَقِّقْ، وَإِذَا تَطَيَّرْتَ
فَامْضِ"(
قال
سعيد بن المسيب رحمه الله: كتب إليّ بعض إخواني من أصحاب رسول الله أن ضع أمر أخيك
على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرًا وأنت تجد
لها في الخير محملاً.
يقول
عز وجل في محكم تنزيله: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ. وتأمل هذه الآية العظيمة جيدًا، لقد شبه الله جل جلاله
المغتاب بالذي يأكل لحم أخيه المسلم، ومتى؟ بعد أن مات، قال القرطبي رحمه الله:
"مثل الله الغيبة بأكل الميتة لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه كما أن الحي إذا
اغتيب لا يعلم بغيبة من اغتابه". ما أبشع ذلك المنظر، وما أسوأ تلك الصورة.
إنها صورة المسلم المنهمك في أكل لحم أخيه المسلم الذي فارق الحياة.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ مَاعِزٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي زَنَيْتُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى إِذَا كَانَ فِي الْخَامِسَةِ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: «أَنْكَحْتَهَا؟ حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْكَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا" قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمِكْحَلَةِ، أَوْ كَمَا يَغِيبُ الرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ" قَالَ: نَعَمْ قَالَ: "تَدْرِي مَا الزِّنَا"قَالَ: أَتَيْتُ مِنْهَا أَمْرًا حَرَامًا كَمَا يَأْتِي الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ حَلَالًا قَالَ:"فَمَا تُرِيدُ؟" قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ فَرُجِمَ فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُولَانِ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الَّذِي سَتَرَهُ ثُمَّ لَمْ تَقَرَّ نَفْسُهُ حَتَّى رُجِمَ رَجْمَ الْكَلْبِ، وَذَكَرَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا فَرَأَى جِيفَةَ حِمَارٍ قَدْ شُغِرَ بِرِجْلِهِ فَقَالَ: " إِلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ: «ادْنُوَا فَكُلَا مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ" قَالَا: غَفَرَ اللهُ لَكَ أَتُؤْكَلُ جِيفَةٌ؟ قَالَ:"فَالَّذِي نِلْتُمَا مِنْ أَخِيكُمَا أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَفِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يَتَغَمَّسُ فِيهَا"(النسائي في السنن الكبري).
إنها
الغِيبة يا عباد الله، إنها ذكر العيب بظهر الغيب، ذكرك أخاك بما يكره، سواء أكان
فيه ما تقول أم لم يكن، هكذا بينها رسولنا محمدٌ .
روي
مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ
أَعْلَمُ، قَالَ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ» قِيلَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ
كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ، فَقَدِ
اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ»
الغيبة
ذات أسماء ثلاثة في كتاب الله تعالى وجل: الغيبة والإفك والبهتان، فإذا كان في
أخيك ما تقول فهي الغيبة، وإذا قلت فيه ما بلغك عنه فهو الإفك، وإذا قلت فيه ما
ليس فيه فهو البهتان.
والغيبة
تشمل كل ما يفهم منه مقصود الذم سواء أكان بكلام أم بغمزٍ أم إشارة أم كتابة، وإن
القلم لأحَد اللسانين.
وهذا هو نبيكم محمد ينادي هؤلاء المبتلَين بهذا الداء المهلك وأخرج الترمذي بسند حسن من حديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ"( أحمد وأبو داود).
والحسن رحمه الله يقول: "والله، للغيبة أسرع في دين الرجل من
الآكلة في الجسد".
أيها
الإخوة، يقول بعض السلف: أدركنا السلف الصالح وهم لا يرون العبادة في الصوم
والصلاة، ولكن في الكف عن أعراض الناس.
يا عبد الله، إن لكل الناس عورات ومعايب وزلات ومثالب، فلا تظن أنك علمت ما لم يعلم غيرك، أو أنك أدركت ما عجز عنه غيرك، فاشتغل بعيبك عن عيوب الناس، واسلك مسلك النصيحة، واعدل عن الفضيحة، واعلم أن من تكلم فيما لا يعنيه حرم الصدق، احفظ حق أخيك، وصن عرضه، وفي الحديث عنه : "من ذبّ عن عرض أخيه بالغيبة كان حقًا على الله أن يعتقه من النار"(أحمد)، وفي حديث آخر قال :"من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال وليس بخارج"( أبو داود وأحمد).
وردغة الخبال هي
عصارة أهل النار عياذًا بالله، وعن أنس قال: قال رسول الله :"لما عُرج بي إلى
السماء مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يَخْمِشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا
جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم"، ولذلك كان ميمون
بن سياه إذا اغتاب أحد عنده نهاه، فإن انتهى وإلا قام من المجلس.
أخيرًا
حذار حذار ـ أيها المؤمن ـ من حصائد اللسان وعواقبه، وتذكر ـ أيها المؤمن ـ أنك
ستقف يوم القيامة بين يدي الله تعالى فردًا لا مال ولا جاه ولا ولد، ليس معك إلا
ما قدمتَ، ومن حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : "من كانت
لأخيه عنده مظلمة من عرضٍ أو مالٍ فليتحلّله اليوم قبل أن يؤخذ منه يومَ لا دينار
ولا درهم، فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له عمل صالح أخذ
من سيئات صاحبه فجعلت عليه"(البخاري).
أقول
ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة
الثانية
الحمد
لله،والصلاة والسلام علي رسول الله
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، فتقوى الله خير زاد.
مع النداء السادس: الكرم بالتقوى.
وها
نحن نأتي على النداء الرباني الأخير في سورة الحجرات:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ خَبِيرٌ"(الحجرات:13).
ذلكم
هو الميزان الشرعي للتفاضل بين الناس، تضافرت نصوص الشرع من القرآن والسنة في
تقريره والتأكيد عليه، ففي سنن الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله خطب الناس يوم فتح
مكة فقال:"يا أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية وتعاظمها
بآبائها، فالناس رجلان: بَرٌ تقيٌّ كريمٌ على الله، وفاجر شقي هَيِّنٌ على الله،
والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب، قال الله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ
مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"(
أبو داود والترمذي). قَالَ الْخَطَّابِيُّ: "الْعُبِّيَّة الْكِبْر
وَالنَّخْوَة".
وعن
سهل بن سعد قال: مر رجل على النبيّ فقال لرجل عنده جالس:"ما رأيك في هذا؟"
فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حريّ إن خَطَبَ أن يُنْكَحَ، وإن شَفَعَ أن
يُشَفَّعَ، فسكت رسول الله ، ثم مر رجل آخر فقال له رسول الله : "ما رأيك في
هذا؟" فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريّ إن خَطَبَ أن
لا يُنْكَحَ، وإن شَفَّعَ أن لا يُشَّفع، وإن قال أن لا يُسْمَعَ لقوله، فقال رسول
الله : "هذا خير من ملءِ الأرض مثل هذا"(متفق عليه)،
أيها
المؤمنون، إن خصالا من خصال الجاهلية تظلّ موجودة في طوائف من الناس، فعن أبي مالك
الأشعري أن النبي قال:" أربع في أمتي من الجاهلية لا يتركونهن: الفخر
بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة"( مسلم)، وعن
المعرور قال: رأيت أبا ذر الغفاري وعليه حلّة وعلى غلامه حلة مثله، فسألناه عن ذلك
فقال: إني ساببت رجلا فقلت له: يا ابن السوداء، فشكاني إلى النبي فقال لي: "أعيرته
بأمه؟!" ثم قال: "إنك امرؤ فيك جاهلية، إن إخوانكم خولكم، جعلهم الله
تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليُلْبِسْهُ مما يلبس، ولا
تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم"( البخاري).
أيها الإخوة، وتأمّلوا كيف طبّق الصحابة هذا الميزان الشرعي في التفاضل: لقي نافع بن
عبد الحارث عمر بعُسْفَان، وكان عمر يستعمله على مكة فقال: من استعملت على أهل
الوادي؟ فقال: ابن أبزَى، قال: ومَن ابنُ أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفتَ
عليهم مولى؟! قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض، فقال عمر: أما
إن نبيكم قد قال:"إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به
آخرين"(مسلم).