recent
أخبار عاجلة

كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله

 

"كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ"

الحمد لله رب العالمين   وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله  اللهم صلاة وسلاماً عليك ياسيدي يا رسول الله وبعد فياعباد الله

يقول الله  تعالى عن اليهود:"..وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ"(المائدة/ 64).

قال البغوي:" يعني : اليهود أفسدوا وخالفوا حكم التوراة ، فبعث الله عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم طيطوس الرومي ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم المسلمين .

وقيل : كلما أجمعوا أمرهم ليفسدوا أمر محمد صلي الله عليه وسلم  وأوقدوا نار المحاربة أطفأها الله ، فردهم وقهرهم ونصر نبيه ودينه ، هذا معنى قول الحسن ، وقال قتادة : هذا عام في كل حرب طلبته اليهود فلا تلقى اليهود في البلد إلا وجدتهم من أذل الناس ، " ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين " . 

"كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ"

هذا جزءٌ من آيةٍ عظيمة كريمة في الكتاب الحكيم تصور -في بيان بديع معجز- شأنًا من شئون اليهود، وطبعًا من طباعهم وسجيةً من سجاياهم المقيمة معهم ممتدة في آماد الزمان، ومنتشرة في آفاق المكان! إنهم كافرون جاحدون معاندون، بلغوا آخر المدى في كفرهم؛ فقالوا في ربهم الكريم قولًا عظيمًا أثيمًا استحقوا به لعنته تعالى وعقابه. ومع ذلك، هم أبدًا أعداء لحقيقة الإيمان كارهون لدين الإسلام. قال تعالى:"وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ"(المائدة:64). وقال عز من قائل:"لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا" (المائدة /82).

 وما أشبه الليلة بالبارحة! فهاهم يهود اليوم -كيهود الأمس- ينفثون سموم حقدهم الأسود الغليل على العرب والمسلمين ويوقدون نيران الحرب كل حين فيطفئها الله عزو جل وهو سبحانه على كل شيء قدير كما دلَّت الأحداث على ذلك عدة مرات منذ، اغتصبوا أرض فلسطين منذ ستين عامًا أو تزيد؛ وفي الأخبار الأخيرة برهانٌ مبين.

والآية تتكلم عن زمننا هذا أيضاً ولا تتكلم عن تاريخهم مع أنبيائهم، ولا في زمن سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم  ففي زمن الرسول لم تكن لهم دولة، بل كانوا تجمعات في حصون منفصلة عن بقية الناس ولم يشنوا حرباً ضد المسلمين.. كانوا يقومون بالمؤامرات وتحشيد العرب ضد المسلمين فقط ومع ذلك كانت نار مؤامراتهم تطفأ ولا يحققون أهدافهم، وقد حسم صلي الله عليه وسلم  أمرهم.. فمنهم من غادر مدينة الرسول ومنهم من دخل الإسلام..

ثم تصف "سورة المائدة" انحطاط هذه الفئة من البشر، حتى أنه سبحانه في آيات سابقة لهذه الآية، قال إنه لعنهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبدة الطاغوت.. فأي إهانة لهذه الفئة المنحطة المتعجرفة التي لا تعترف إلا بنزواتها وأطماعها حتى صارت هي الشر بعينه..

لكن ما يعنينا هو هذه الجزئية من الآية التي تتحدث عن "اليهود" وعن مستقبلهم في الأرض وبالأخص في زمننا هذا ومواجهاتهم الوحشية مع المسلمين، والآية تثبت أن من أهم صفاتهم التي تثبطهم وتمنعهم من تحقيق أهدافهم دائماً، هي صفة البغض والعداوة فيما بينهم... فهم لا يستطيعون إنجاز هدف حتى في أيامنا هذه، رغم انحياز العالم الغربي وقوى الشر لهم، حتى انتصاراتهم المزعومة على العرب لا تعتبر انتصارات،!! فالانجليز مهدوا لهم وحجزوا عنهم العرب وجردوهم من السلاح، ومع ذلك لم يحسموا الحرب معهم، فالفلسطينيون والعرب لم يقروا لهم بالهزيمة رغم الدعم الغربي اللامحدود، وحرمان العرب من امتلاك أمرهم وامتلاك السلاح، والحرب ما زالت مشتعلة، وحتى تُنتهي لابد من تحقيق أهدافها، وأهم هدف هو أن يقر المنهزم بالهزيمة ويترك الساحة، لذلك هم لم يحققوا أهدافهم ولم ينتصروا على مدى زمن احتلالهم لفلسطين.

في حربهم الأولى(1948) مع العرب انطفأت نار حربهم دون حسم ولم ينتصروا، لأن كثيراً من الشعب الفلسطيني تشبث بارضه وما زال يقاتل، والعالم الإسلامي ما زالت بوصلته تشير إلى فلسطين بالرغم من أن دولة الاحتلال تخترق معظم الأنظمة العربية حولها، ثم أطفأ الله نار حربهم في (1967) وبقي معظم أهل الضفة الغربية فيها وما زالوا يقاومون ولم يقروا بالهزيمة وسيحققون أهدافهم بطرد الاحتلال.

وينسحب هذا الحكم " كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ " على جميع حروبهم التي كانت تمهدها لهم القوى الكبرى، وما زالت حروبهم الجبانة التي يمارسونها من وراء آلة الحرب ولا يواجهون وجها لوجه، حتى جن جنونهم وصاروا يقتلون النساء والأطفال، ويقصفون المستشفيات والمدارس، ظانين أنهم سينتصرون، كل ذلك ولا يحققون هدفهم من الحرب!! لأن الله سبحانه "أطفأ نار حربهم"وذهبت أهدافهم أدراج الرياح.

وما دام الفلسطينيون لم يسلّموا لهم باحتلال فلسطين ولا العرب الشرفاء ولا العالم الاسلامي، بل ما زال الفلسطينيون يقاتلونهم منذ ما يقرب من القرن، ويقدمون التضحيات العظيمة التي تثقل كاهل أي شعب، وعازمون على المضي في هذه الطريق حتى الانتصار الكبير وتحقيق أهداف الشعوب العربية والإسلامية في طرد أحفاد القردة والخنازير من فلسطين.. فالنصر قريب وتبقى القضية قضية وقت... وستكون المعركة الأخيرة لنا نوقدها نحن ولن تُطفأ بعون الله ونحقق أهدافنا بالنصر عليهم وطردهم من بلادنا إلى غير رجعة..

"كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ"

من نظر في أحوال المسلمين، وما أصابهم من ضعف وهوان، وتفرق واختلاف أيقن بأن عللهم كثيرة، وأدواءهم خطيرة، وقد شملت مجالات كثيرة؛ ففيهم من العلل السياسية ما جعلهم مستضامين مستضعفين، يستجدون غيرهم الوقوف معهم، ويطلبون الحماية من غيرهم، وأعداؤهم يشعلون الحروب في أراضيهم ويوقفونها متى أرادوا، ولا مشورة لهم في ذلك، بل ويصدرون عليهم من القرارات ما يضعفهم، ويشترطون عليهم من الشروط ما يزيدهم ضعفا إلى ضعفهم، وذلة إلى ذلتهم.

وفيهم من الأدواء الاقتصادية ما جعل أكثر الدول الإسلامية عالة على غيرهم، يشترون خبزهم ببيع سيادتهم، ويهدرون كرامتهم في سبيل بقائهم، وقد غلَّتهم الدول المستكبرة بالمساعدات والقروض الربوية، وثرواتهم لغيرهم وليست لهم، ولا يسمح أعداؤهم لهم بالعتق من رقه وأسره، حتى إذا ما أراد العدو افتراس بلد مسلم، وهبَّتْ الدول الإسلامية لنجدته رفع الأصدقاء الأعداء أوراق المساعدات والقروض في وجهها، فلا يقدرون على حراك معها، وأعلى نسبة فقر عالمية هي في بعض دول أهل الإسلام.

وفي المسلمين من الأدواء الإعلامية والثقافية ما أفقد كثيرا منهم شخصيتهم، وأذابهم في المناهج المنحرفة، ومن رأى إلى أكثر القنوات الفضائية العربية والصحف والمجلات علم أنها لا تمثل شخصية الأمة، ولا تدافع عن حقوقها، ولا تسعى لنشر دينها وثقافتها، بل هي أشد ما تكون حربا على دين المسلمين وقيمهم وأخلاقهم، في مقابل الدعاية والترويج للمناهج المنحرفة، والسلوكيات المنحطة، والأخلاق الرديئة، عن طريق استنساخ كامل لبرامج ملاحدة الغرب وفساقهم.

وفي المسلمين من أدواء التفرق والاختلاف ما يجعل ثقة كثير منهم في أعدائهم أكثر من ثقتهم في إخوانهم، والخيانات المتتابعة التي مرت بها قضية فلسطين مثال شاهد على ذلك؛ سواء في عهود الحروب والمدافعة، أم في مراحل التفاوض والسلام والمناقشة، التي وقَّعها الأعداء مع كل دولة على حدة؛ ليزيدهم ضعفا إلى ضعفهم، وتفرقا إلى تفرقهم.

ومع هذه العلل المهلكة، وتلك الآفات المردية، يأتي المنافقون بهمتهم ومهمتهم في القضاء على هذه الأمة بالتخذيل والإرجاف، والوعيد والتخويف -إن أصر المسلمون على دينهم ولم يحيدوا عن قرآنهم- زاعمين أن بلاء المسلمين وانكسارهم وتخلفهم إنما كان بسبب الموروثات القديمة التي لا تناسب الزمن، مؤكدين على أن الأمم الأخرى ما تقدمت وعزت وانتصرت إلا لما نبذت موروثاتها وراءها ظهريا، فزاد هؤلاء المخذلون والمرجفون في ضعف الأمة وتمزقها وتقهقرها.

إنها أدواء عظيمة، وفتن كبيرة، أصابت كثيرا من المسلمين في مقاتلهم، وطاشت بها عقولهم، فتغيرت قناعاتهم، وتبدلت مواقفهم، وصاروا أبواقا للأعداء بدل الدفاع عن حقوقهم، ودعاية للمناهج المنحرفة بدل الدعوة إلى دينهم.

ولقد شهدنا في خضم هذه الفتن والمحن تحولات كثيرة من الإيمان إلى النفاق، ومن الإسلام إلى الزندقة والإلحاد، ومن الدعوة إلى التمسك بالشريعة إلى الإصرار على التفلت منها..

بل رأينا وسمعنا ذوي دعوة وحجى قد نقلوا أحاديثهم عن الإسلام إلى المذاهب الإنسانية، والإخاء البشري، وانتقلوا في استدلالاتهم من نصوص الوحيين إلى أقوال المفكرين الغربيين.

وأصابت هذه الأدواء المهلكة جمهور المسلمين باليأس والإحباط؛ لأنهم يرون أحوال المسلمين من سيء إلى أسوأ، ولم يثبت على قناعته بدينه كله، ولم يتنازل عن شيء منه إلا نُزاع من العلماء والدعاة والصالحين في كل بلد من بلدان المسلمين.

إن الناس في حال السلامة والعافية يثبتون، ولكن إذا تعاظمت الفتن، واستحكمت المحن، وازدادت الشرور، وتسلط الكافرون والمنافقون - فلا يثبت إلا من ثبته الله تعالى من أفذاذ الرجال، ويوم ارتد المرتدون بعد وفاة النبي صلي الله عليه وسلم لم يثبت إلا الصديق أبو بكر رضي الله عنه، فثبت الله تعالى الأمة بثباته رضي الله عنه، ويوم قالت المبتدعة بخلق القرآن، وامتحنوا الناس على ذلك لم يثبت على كثرة العلماء في ذلك الوقت إلا أحمد بن حنبل؛ فرفع الله تعالى بثباته المحنة، ونصر السنة.

إن المسلمين إزاء هذه الأحوال المتردية، والفتن المتلاطمة أحوج ما يكونون إلى استحضار هدي النبي صلي الله عليه وسلم في ذلك؛ فقد أوذي صلي الله عليه وسلم  ، وأوذي أصحابه رضي الله عنهم، وهُجِّروا من ديارهم، واجتمعت عليهم قوى الشر والطغيان في ذلك الوقت، وما رأينا النبي صلي الله عليه وسلم متنازلا ًأو مغيراً، ولا يائساً محبطاً؛ بل تحكي سيرته صلي الله عليه وسلم أنه في حال المحن والفتن، واشتداد الكرب، واجتماع الناس عليه وعلى دعوته، يكون أشد ثباتاً وعزماً، وأكثر تفاؤلاً واستبشاراً، وقد زخرت سيرته العطرة بأمثلة كثيرة على ذلك.

وفي أول الإسلام شكى المستضعفون من المؤمنين رضي الله عنهم إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم ما يلقون من المشركين وقالوا له: ألا تستنصرُ لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال صلي الله عليه وسلم: " كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله لَيُتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا اللهَ أو الذئبَ على غنمه ولكنكم تستعجلون " (الشيخان).

لقد حثهم صلي الله عليه وسلم على الثبات، وحكى لهم أخبار الثابتين ممن كانوا قبلهم، وبشرهم بالنصر رغم حالة الضعف التي يعيشونها.

وفي غزوة الخندق تحزبت الأحزاب على المسلمين، وحاصروا المدينة، ونقضت يهود من داخل المدينة عهدها مع رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فاشتد الكرب، وعظمت المحنة، ويكفي في وصف ذلك الموقف العصيب قوله تعالى:"إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً "(الأحزاب:10-11). 

ولكن النبي صلي الله عليه وسلم  كان واثقا بربه، موقنا بوعده ونصره، وكان في تلك الشدة يبشر أصحابه بالكنوز والفتوح والنصر؛ كما روى البراء بن عازب رضي الله عنه فقال: لما أمرنا رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يحفر الخندق عرض لنا فيه حجر لا يأخذ فيه المعول، فاشتكينا ذلك إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فجاء رسول الله صلي الله عليه وسلم لافألقى ثوبه وأخذ المعول وقال: " بسم الله "، فضرب ضربة فكسر ثلث الصخرة وقال: " الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الآن من مكاني هذا "، قال: ثم ضرب أخرى وقال: " بسم الله" وكسر ثلثا آخر وقال: " الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن "، ثم ضرب ثالثة وقال: " بسم الله " فقطع الحجر وقال: " الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر باب صنعاء "(أحمد).

فلما اشتد البلاء على النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه نافق ناس كثير، وتكلموا بكلام قبيح، فلما رأى رسول الله صلي الله عليه وسلم ما فيه الناس من البلاء والكرب جعل يبشرهم ويقول: " والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة والبلاء فإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنا، وأن يدفع الله عز وجل مفاتح الكعبة، وليُهْلِكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله "، فقال رجل ممن معه لأصحابه: ألا تعجبون من محمد يعدنا أن نطوف بالبيت العتيق وأن نغنم كنوز فارس والروم ونحن هنا لا يأمن أحدنا أن يذهب إلى الغائط، والله لما يعدنا إلا غرورا، وقال آخرون ممن معه: ائذن لنا فإن بيوتنا عورة، وقال آخرون: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا.

إنه لموقف عظيم، وتثبيت عجيب، يعدهم النبي صلي الله عليه وسلم بالأمن وهم في شدة الخوف، ويبشرهم بكنوز الأمم وهم في عوز وجوع ومخمصة، ويذكر لهم فتح المدن الكبرى في وقته وهم محاصرون في المدينة، وبينه وبين المدن التي بشر بفتحها أميال وأميال..

إنه الإيمان بالله تعالى، والثقة به، وتصديق وعده..

إنه ثبات لا تزعزعه المحن، ولا تميد به الفتن، بل تزده شدة وصلابة في الحق، وإصرارا على تبليغ دين الله تعالى.. فثبت المؤمنون معه، وفرحوا بهذا الفأل وهذه البشارة "وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً "(الأحزاب:22).

وأما المنافقون فقالوا ما قالوا، وخذلوا وأرجفوا، وذهبوا خاسئين مذمومين، وكذبوا وصدق الله ورسوله، وجاء الأمن بعد الخوف، والغنى بعد العوز، ودخل المسلمون مكة وطافوا بالبيت، ودحر أهل الشرك والوثنية، وفتحت المدن التي بشر النبي صلي الله عليه وسلم  بفتحها، وجلبت إلى المدينة كنوزها، ووضعت بين يدي عمر رضي الله عنه أنطاع عليها الأموال العظيمة؛ من ذهب وياقوت وزبرجد ولؤلؤ يتلألأ، فقال رضي الله عنه: "أين سراقة بن جُعْشُم فأُتي به أشعرَ الذراعين دقيقَهما، فأعطاه عمر سواري كسرى، فقال: البسهما، ففعل فقال: قل: الله أكبر، قال: الله أكبر، قال: قل: الحمد لله الذي سلبهما من كسرى بنِ هرمز وألبسهما سراقةَ بن جُعْشُم أعرابيا من بني مُدْلج".

إن حالكم -يا عباد الله- في هذا الزمن كحال أسلافكم من قبلُ؛ فتنةً وامتحاناً وابتلاء، وإن تفاوت ذلك بين قليل وكثير، وشديد وأشد، وسيكون في الأمة منافقون كما كانوا من قبل، وسيكون في المسلمين سماعون لأراجيفهم وأباطيلهم، وتخويفهم بالكافرين كما كان ذلك في الصدر الأول، وسيثبت رجال في عصرنا هذا رغم شدة البلاء، وعظم الكرب، قد امتلأت قلوبهم إيمانا بالله تعالى، وثقة بنصره، وتصديقا بوعده؛ فإن أدركوا وقت النصر فازوا بالحسنيين: حسنة الدنيا والآخرة، وإن قبضوا قبل ذلك لقوا ربهم ثابتين على دينهم، مستمسكين بشريعتهم، فكونوا -يا عباد الله منهم-؛ فإنهم قليل في خلق كثير.

:"قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ"(الأعراف:128).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله   واشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،   صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله تعالى وأطيعوه:" وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ "(البقرة:281).

أيها المسلمون: منذ أن ابتلى الله عز وجل المسلمين باستيطان اليهود في فلسطين المحتلة، ومنطقة الشرق الإسلامي لم تهنأ بعيش، ولا نعِم أهل فلسطين بأمن؛ ذلك أن الاحتلال الاستيطاني هو شر أنواع الاحتلال، ولا يكتب له النجاح إلا بإبادة شاملة لأهل البلاد الأصليين، وتهجير من يبقى منهم -كما فعل الكاثوليك بالمسلمين في الأندلس والبروتستانت بالهنود الحمر في أمريكا-، ولم ينجح اليهود في هذا المسعى الآثم بفضل الله عز وجل ثم بثبات المسلمين في الأرض المباركة، وتمسكهم بحقهم في بيت المقدس، وزاد من مشكلة الاستيطان اليهودي أنهم محاطون بأعدائهم، وقد لعب بهم من وطنوهم في أرض ليست لهم، وزرعوهم في وسط أعدائهم؛ ولا بقاء لليهود إلا بافتعال الحروب في المنطقة، وهذا دأبهم منذ أن احتلوا الأرض المباركة، ويصرح ساستهم بذلك فرئيسهم الهالك بيجن يقول: " نحن نحارب، فنحن إذن نكون ".

ومن سياستهم المعلنة أنهم في كل عشر سنوات لا بد أن يشعلوا حربا جديدة، وقد يقلصون المدة إذا دعتهم الحاجة إلى ذلك، وفي هذا يقول شامير: " يتعين علينا في كل عشر سنوات مرة أن نُجْلِسَ العرب على كرسي طبيب الأسنان؛ كي نقلع أسنانهم التي نبتت حتى لا يعضونا بها ".

وقد أخبرنا القرآن عنهم بأنهم يسعون بالفساد، ويشعلون الحروب، وكان ما رأى المسلمون منهم لا يعدو قول القرآن فيهم:"  كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ "(المائدة:64).

فقطار السلام لا يركبه اليهود إلا للوصول عبر محطاته إلى ميدان الحرب؛ وهذا أمر واضح لمن راقب أحوال القوم في القديم والحديث.

ومن رحمة الله تعالى بعباده أنه -سبحانه- يطفئ نار الحروب التي يفتعلونها، ويرد كيدهم وكيد حلفائهم في نحورهم.

ومن المبشرات العظيمة أن إطفاء نيران حروبهم دليل على هزيمتهم وخسرانهم، ومشعر بنهاية أمرهم، واضمحلال دولتهم، وهذا ما ينذر به مؤرخوهم ومحللوهم بعد فشلهم في عدوانهم على لبنان؛ فالحمد لله الذي أطفأ نار حربهم، وكسر شوكتهم، وردهم خاسئين خاسرين.

وعلى المسلمين ألا يخدعوا بيهود ومن وراءهم، وبمبادراتهم ومشاريعهم التي تريد من المسلمين الاستسلام الكامل لهم، وجعل مفاتيح المنطقة بأيديهم، فهم قوم غدر بهت لا يوقفهم عن أطماعهم، ولا يردهم عن غيهم وإفسادهم إلا القوة، ولا قوة للمسلمين إلا بالله تعالى، ولا نصر لهم إلا بنصر دينه، وإعلاء كلمته، وتحكيم شريعته" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ"(محمد:7 ).

فانصروا الله تعالى -أيها المسلمون- بالاستمساك بدينه، والثبات عليه، وعدم التنازل عن شيء منه مهما كلف الأمر.

انصروه سبحانه بتحكيم شريعته في القليل والكثير، والصغير والكبير، والجليل والحقير.

اعملوا بشريعته في أنفسكم وأهلكم وأولادكم وأموالكم، وراقبوا الله تعالى في ذلك ولا تراقبوا خلقا مثلكم.

انصروه بإقامة فرائض دينكم، ومجانبة ما نهاكم عنه ربكم.

انصروه -سبحانه- بأداء الأمانات التي أثقلت كواهلكم، وتحمل المسؤوليات التي عليكم.

انصروه -سبحانه- بالثقة به وبدينه، وأنه الحق الذي لا باطل فيه، وأن ما عارضه فهو الباطل الذي لا حق فيه.

انصروه بإخلاص العمل له، وكثرة الالتجاء إليه، والاعتصام بحبله، والتوكل عليه؛ فإنكم إن فعلتم ذلك نصركم الله تعالى على أعدائكم، ولن تقف قوة مهما بلغت أمامكم؛ لأن الله تعالى معكم " وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ"(المدثر:31).

google-playkhamsatmostaqltradent