
الحث علي المسارعة في عمل الخيرات والطاعات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين،
وبعد:
إن حديث المبادرة بالأعمال من الأحاديث التي تحمل معاني كثيرة وكبيرة،
تحث على المسارعة في عمل الخيرات والطاعات والعبادات، قبل أن تحول
دونها العوائق
عن أبي هريرة رضيَ اللَّه عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَال:
"بادِروا بالأعمالِ سبعًا: هل تنظرون إلا فقرًا مُنسِيًا، أو غنًى مُطغِيًا، أو
مرضًا مُفسِدًا، أو هرَمًا مُفنِّدًا أو موتًا مُجهِزًا، أو الدَّجَّالَ فشرٌّ غائبٌ يُنتَظرُ،
أو السَّاعةُ فالسَّاعةُ أدهى وأمرُّ"( الترمذي وَقالَ: حديثٌ حسنٌ.تحفة الأحوذي، المباركفوري، كتاب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في المبادرة بالعمل (6 /2306) هذا الحديث ذكره المؤلف النووي رحمه الله في رياض الصّالحين ، في : " باب ذكر الموت وقصر الأمل ).
بادروا
بالأعمال سبعًا": المبادرة
هي المسابقة والمسارعة في الأعمال عمومًا، ومعنى بادروا؛ أي: سارعوا وسابقوا في الأعمال
قبل أن يشغلكم شاغل، ويحل بكم حائل، يحول بينكم وبين القيام بالأعمال الصالحات والقربات. وهذا الأمر
بالمبادرة يدل على عدم الركون والتسويف والتأجيل والتأخير، وخاصة في أمور الآخرة، فالموفَّق
هو الذي يبادر ويسارع ويجدُّ، ويجتهد قبل أن تحيط به العوائق، وتمنعه الموانع.
هَلْ تَنْتَظِرُونَ ؟ استفهام توبيخي ذكر بعض العلماء أن هذا الحديث خرج
مخرج التوبيخ على تقصير المكلفين في أمر دينهم؛ أي: متى تعبدون ربكم
فإنكم إن لم تعبدوه مع قلة الشواغل وقوة البدن، فكيف تعبدونه مع كثرة
الشواغل وضعف القوى؟
يعني اعملوا قبل أن تصيبكم هذه السّبع التي ذكرها النبي صلى الله عليه
وآله وسلم فبادروا بها، ثم
ذكر هذه السّبع
فَقْرًا
مُنسيًا: "
أي أن يصاب
الإنسان بفقر ينسيه ذكر ربّه، لأن الفقر أعاذنا الله وإيّاكم منه شرّ درع يلبسه العبد،
فإنه إذا كان فقيراً يحتاج إلى أكل وشرب ولباس وسكن وزوجة فلا يجد من ذلك شيئا فتضيق
عليه الأرض بما رحبت ويذهب يتطلّب أن يحصل على شيء من ذلك فينسى ذكر الله عزّ وجلّ،
ولا يتمكّن من أداء العبادة على وجهها، ويفوته كثير من العبادات التي تستوجب أو التي
تستلزم الغنى: كالزّكاة والصّدقات والعتق والحجّ والإنفاق في سبيل الله وما أشبه ذلك.
فالفقر ينسي
صاحبه الطاعة والعبادة، وذكر الله تعالى من شدته، لانشغاله بطلب القوت ورزق العيال
عن ذلك، وتفوته بعض العبادات بسببه، ومن طبيعة الإنسان أنه إذا ابتُلي بفقر شديد، فقد
ينسيه هذا الفقر العمل للآخرة، وهذا يدل دلالة واضحة على ضَعف الإنسان، وسرعة تغيُّر
حاله لتغير الظروف عنده.
هل تنتظرون إلا فقراً مُنسيًا، ولذلك الإنسان إذا افتقر فقراً شديداً فإن هذا الفقر يُنسيه، يشتغل قلبه بلقمة العيش أين يجدها، فلا يتمكن من كثير من الأعمال، بل لا يتمكن من كثير من لذاته؛ لأنه مشغول بتوفير شيء يسد جوعته، الإنسان يجوع لربما يُغمى عليه من شدة الجوع.
أبو هريرة
كان يسقط في مسجد رسول الله صلي الله عليه وسلم ويأتي
الرجل ويأخذ بخناقه، ويظن أن به الصرع والجن والمس، ويقول: وما بي إلا الجوع.
والشافعي
-رحمه الله- الإمام المعروف يقول: لو كُلِّفت بشراء بصلة لما حفظت مسألة، أو ما حفظت
مسألة.
فالإنسان
الذي يتطلب لقمة العيش، ومشغول البال كيف يوفرها أنت لا تجد قلبه فيه محل للمعالي والمطالب
في كثير من الأحيان؛ لأنه مشغول بما يقيم صلبه، بما يبقيه، بما يقيم عيشه.
أو غِنًى مُطْغِيًا،؛ أي: موقع للإنسان في الطغيان - والعياذ بالله تعالى - وكما هو معلوم أن الغنى سبب للطغيان والفساد، فقد يرى صاحبه أنه استغنى عن عبادة ربه جل وعلا، فيقصر بأداء الواجبات، ويتساهل في المحرمات، إلا من عصمه ربُّ البريات، وما ذاك إلا لسهولة توفُّر ما يحتاجه من ملذات الدنيا وشهواتها؛
فالإنسان قد يتجاوز حدود الله تعالى إذا أبطره
الغنى : أنها
إما غنى مُطغيًا : يعني يغني الله الإنسان ويفتح عليه من الدّنيا فيطغى بذلك، ويرى
أنه استغنى عن ربّه عزّ وجلّ، فلا يقوم بما أوجب الله عليه، ولا ينتهي عما نهاه الله
عنه،
فالغِنى كما هو معلوممظنة للطغيان، فهذه طبيعة في الإنسان إلا من عصمه الله
تعالي وأعانه على نفسه وقليل ما هم، ولذلك تجد في كثير من الحالات أن الغنى يحمل صاحبه
على شيء من الفسق والبطر، والتضييع، والتفريط في حقوق الله تعالي بل والتعالي على الخلق.
أو مَرَضًا مُفْسِدًا ؛ أي: مفسدًا
للبدن لشدته وقوته، فيكون المرض سببًا مانعًا من أداء بعض العبادات والطاعات والقربات
إلى ربِّ البريَّات، فقد يكون مانعًا من أداء الصلاة، والسفر للحج والعمرة، وصوم شهر
رمضان، وغير ذلك من أنواع العبادات، فالإنسان إذا كان في صحة وعافية يكون منشرح الصدر،
فإذا مرض أصبح في غمٍّ وهمٍّ تفسد فيه حياته وعيشته، والعياذ بالله تعالى.
فالمرض
يفسد على الإنسان حياته، لأن الإنسان ما دام في صحّة فهو في نشاط وانشراح صدر، والدّنيا
أمامه مفتوحة، فإذا مرض ضعف البدن وضعفت النفس وضاقت وصار الإنسان دائما في همّ وغمّ
فيفسد عليه حيات أو مرضاً
مُفسدًا، مرض يفسد الأعضاء، يصيبه بالشلل، يقعده على الفراش، فلا يستطيع أن يعتمر،
ولا يستطيع أن يحج، ولا يستطيع أن يقوم الليل، ولا يستطيع أن يصوم النهار، لا يستطيع
أن يفعل شيئًا، هو ضعيف، حتى صيام رمضان قد لا يتمكن منه، ويمنعه الأطباء من ذلك.
أو هَرَماً
مُفنِّدًا،
الهَرم
المُفنِّد بمعنى: أن الإنسان إذا وصل إلى مرحلة متقدمة في العمر يحصل عنده شيء من الخلل
في عقله، وهذا ما يعرفه الأطباء اليوم بتلف في خلايا المخ فيُفنَّد رأيه، بمعنى: أن
هذا الإنسان لا يعتد برأيه، ولا بعقله، ولا بتفكيره، ولا بنظره في الأمور، إنسان قد
وصل إلى مرحلة الخرف، فهو تارة تقول: هذا عاقل، يعي ما يقول، وتارة يخلط، فرض يصلي،
وفرض يقول: صليت وهو لم يصلِّ، أو يصلي ثم يتكلم، ويتلفت، ويحتاج أن يقول له من عنده
بالبيت، ودائماً الناس يسألون عن مثل هذا، يقولون: الآن كَبِّر تكبيرة الإحرام، الله
أكبر، فيكبر، ثم يبدءون يقولون: سبحانك الله وبحمدك، دعاء الاستفتاح، ثم يقولون: الفاتحة
يقرءون عليه، ثم يقرءون له سورة، ثم يقولون: الله أكبر، ركوع، يقولون: نحن نفعل هكذا
معه في كل شيء، ولو تركناه ما عرف يصلي.
هذا بعدما
كان قويًّا ونشيطاً، ولربما يعلِّم الآخرين، فهذا الهَرم المُفنِّد، بمعنى أنه ذهب
رأيه، وذهب عقله، وإذا ذهب عقل الإنسان ارتفع عنه التكليف، انتهى.
لذلك مثل
هؤلاء الذين يسألون عن هذا يقال لهم: لا يجب عليكم أن تقولوا له: الآن كَبِّر، الآن
اركع، الآن اقرأ الفاتحة، اتركوه، هذا إنسان غير مكلف.
كذلك أيضا الهرم المفنّد، : يعني كبراً يفنّد قوّة الإنسان ويحطّمها كما قال الله تعالى :"اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ"(الروم: 54).
فالإنسان ما دام نشيطا شابا يعمل العبادة بنشاط، يتوضّأ بنشاط، يصلي بنشاط، يذهب إلى العلم بنشاط ، لكن إذا كبر فهو كما قال الله عزّ وجلّ عن زكريّا :" قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا"(مريم/4).
يضعف العظم، والعظم هو الهيكل الذي ينبني عليه الجسم، فيضعف وتضعف القوّة ولا يستطيع أن يفعل ما كان يفعله في حال الشّباب كما قال الشّاعر:
"
ألا ليت الشّبابَ يعود يوماً *** فأخبره بما فعل المشيب " .
وقيل :" أو هرمًا مفندًا"؛ أي: يصيبه الخرف والهذيان وخفة في العقل لهرم أصابه واعتراه، فيكثر خطؤه، ويقل تمييزه وتركيزه وتفكيره، وتخلط أقواله وأفعاله مما أصابه من هرم وخرف، نسأل الله اللطيف الخبير السلامة والعفو والعافية؛ فالله تعالى هو الذي خلقكم أيها العباد من ماء ضعيف مهين، وهو النطفة، ثم جعل من بعد ضعف الطفولة قوةَ الشَّباب واكتمالَه، ثم جعل من بعد هذه القوة ضعف الكبر والهرم، يخلق الله تعالى ما يشاء من الضعف والقوة، وهو العليم بخلقه، القادر على كل شيء سبحانه وتعالى
أو موتاً
مُجهِزًا،
والموت
المُجهِز هو الموت السريع، نحن نشاهد الآن كثرة الموت المُجهِز سواء كان بجلطة، أو
كان بأسباب أخرى، مثل حوادث السيارات، تجد الناس في غاية القوة، والنشاط، والفتوة،
والشباب، وما إلى ذلك، ولربما يكون يشرب، أو يأكل ويتحدث مع من حوله، وبلحظات أقل من
الدقيقة تحول كل شيء إلى أشلاء، نسأل الله العافية.
وقيل موتًا
مُجهزًا: هذا أيضا مما ينتظر، الموت، إذا مات الإنسان انقطع عمله ولم يتمكّن من
العمل، مجهزا: سريعا، وكم من إنسان مات من حيث لا يظن أنه يموت، كم من إنسان مات وهو
في شبابه وصحّته بحوادث: احتراق انقلاب سيّارة، سقوط جدار عليه، سكتة قلبيّة، أشياء
كثيرة يموت الإنسان ولو كان شابّا، بادر هذا لأنك لا تدري ربّما تموت، ربما تموت وأنت
تخاطب أهلك، تموت على فراشك، تموت وأنت على غدائك، تخرج تقول لأهلك: ولِّموا الغداء
جهّزوه، ثم لا ترجع تأكل منه، إذن بادر، ومن ذلك أيضا الساعة أو الدّجّال فشرّ غائب
يُنتظر .
وقيل:"أو موتًا مجهزًا" أي: الموت المفاجئ والسريع، والذي يأتيه بغتة دون سابق إنذار، بحيث
يجهز على حياة الإنسان؛ إما بحادث سير مفاجئ، أو جلطة حادة؛ نسأل الله لطفه، فكم من
إنسان خرج من بيته وبعد ساعات رجع محمولًا على الأكتاف، وقد كثُر موت الفجأة في زماننا
هذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فهذا موت مُجهِز لا يسعه الوقت أنه يقول: أتوب، وأعمل الآن، وأتصدق، وأفعل، وأرجع عما كنت فيه، وكم من واحد جاءه هذا الموت المُجهِز وهو في حال المعصية بالله.
أو الدَّجالَ فشرُّ غائبٍ ينتظرُ
أي: خروج الدجال، "فشر غائب ينتظر "، ففتنة الدجال فتنة عظيمة حذَّر منها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أمتَه، والأنبياء السابقون كلهم حذروا أممهم منها؛
لحديث أبي إمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يا أَيُّها الناسُ، إنها لم تكن فتنةٌ على وجهِ الأرضِ منذُ ذَرَأَ اللهُ ذُرِّيَّةَ آدمَ أَعْظَمَ من فتنةِ الدَّجَّالِ، وإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ لم يَبْعَثْ نبيًّا إلا حَذَّرَ أُمَّتَه الدَّجَّالَ، وأنا آخِرُ الأنبياءِ، وأنتم آخِرُ الأُمَمِ، وهو خارجٌ فيكم لا مَحالةَ، فإن يخرجْ وأنا بين أَظْهُرِكم، فأنا حَجِيجٌ لكلِّ مسلمٍ، وإن يخرجْ من بَعْدِي، فكلٌّ حَجِيجُ نفسِه، واللهُ خَلِيفَتِي على كلِّ مسلمٍ.."(أبو داود بسند صحيح).
ولعظيم فتنة الدجال أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة منه في دبر كل صلاة، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ باللَّهِ مِن أَرْبَعٍ، يقولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِن عَذابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذابِ القَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيا والْمَماتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ"(مسلم).
ومن مواقف الفتن العظيمة للدجال ما ورد في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَخْرُجُ الدَّجّالُ فَيَتَوَجَّهُ قِبَلَهُ رَجُلٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ، فَتَلْقاهُ المَسالِحُ، مَسالِحُ الدَّجَّالِ، فيَقولونَ له: أيْنَ تَعْمِدُ؟ فيَقولُ: أعْمِدُ إلى هذا الذي خَرَجَ، قالَ: فيَقولونَ له: أوَ ما تُؤْمِنُ برَبِّنا؟ فيَقولُ: ما برَبِّنا خَفاءٌ، فيَقولونَ: اقْتُلُوهُ، فيَقولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أليسَ قدْ نَهاكُمْ رَبُّكُمْ أنْ تَقْتُلُوا أحَدًا دُونَهُ، قالَ: فَيَنْطَلِقُونَ به إلى الدَّجّالِ، فإذا رَآهُ المُؤْمِنُ، قالَ: يا أيُّها النَّاسُ، هذا الدَّجَّالُ الذي ذَكَرَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: فَيَأْمُرُ الدَّجَّالُ به فيُشبحُ، فيَقولُ: خُذُوهُ وشُجُّوهُ، فيُوسَعُ ظَهْرُهُ وبَطْنُهُ ضَرْبًا، قالَ: فيَقولُ: أوَ ما تُؤْمِنُ بي؟ قالَ: فيَقولُ: أنْتَ المَسِيحُ الكَذَّابُ، قالَ: فيُؤْمَرُ به فيُؤْشَرُ بالمِئْشارِ مِن مَفْرِقِهِ حتَّى يُفَرَّقَ بيْنَ رِجْلَيْهِ، قالَ: ثُمَّ يَمْشِي الدَّجَّالُ بيْنَ القِطْعَتَيْنِ، ثُمَّ يقولُ له: قُمْ، فَيَسْتَوِي قائِمًا، قالَ: ثُمَّ يقولُ له: أتُؤْمِنُ بي؟ فيَقولُ: ما ازْدَدْتُ فِيكَ إلَّا بَصِيرَةً، قالَ: ثُمَّ يقولُ: يا أيُّها النَّاسُ، إنَّه لا يَفْعَلُ بَعْدِي بأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، قالَ: فَيَأْخُذُهُ الدَّجَّالُ لِيَذْبَحَهُ، فيُجْعَلَ ما بيْنَ رَقَبَتِهِ إلى تَرْقُوَتِهِ نُحاسًا، فلا يَسْتَطِيعُ إلَيْهِ سَبِيلًا، قالَ: فَيَأْخُذُ بيَدَيْهِ ورِجْلَيْهِ فَيَقْذِفُ به، فَيَحْسِبُ النَّاسُ أنَّما قَذَفَهُ إلى النَّارِ، وإنَّما أُلْقِيَ في الجَنَّةِ فَقالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هذا أعْظَمُ النَّاسِ شَهادَةً عِنْدَ رَبِّ العالَمِينَ"(مسلم).
فهذا الدجال
إذا خرج فتنة عظيمة جدًّا، انظروا الآن حينما تقع حرب في جزء يسير من الأرض كيف ينشغل
الناس بها، فكيف إذا خرج الدجال؟!، كم يحصل من الفتنة؟، وإذا أردت أن تقيس مدى قابلية
الناس للاستجابة لفتنة الدجال الذي يمر بالخَرِبة فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ويمر
على الأرض المجدبة، ويدعوهم يقول لهم: إنه هو إلههم، فإن تبعوه أخصبت أرضهم، وأنبتت،
وعادت إليهم سارحتهم ممتدة الخواصر ممتلئة الضروع، وإذا كذبوه أمحلتْ أرضهم وهلكت داوبهم.
أو السَّاعةَ فالسَّاعةُ أدهَى وأمرُّ ؟
الساعة أشد من هذا كله، والله -تبارك وتعالى- يقول:
يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ
حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ
اللَّهِ شَدِيدٌ"(لحـج:2).
قبل الساعة
إذا خرجت الشمس من مغربها فعند ذلك :"لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ
آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا"(الأنعام:158)، والساعة
تقوم بلمح البصر، أو أسرع، الرجلان يتعاطيان الثوب فلا يحصل هذا البيع، تقوم الساعة
والرجل يصلح حوضه فلا يسقي منه، والرجل يحلب لقحته ولا يشرب، تقوم الساعة وهو في هذه
الأثناء.
الإنسان
يُبادر إلى الأعمال قبل فوات الأوان قبل أن ينزل به ما يحول بينه وبين العمل، هذا هو
المراد، وذكر بعده -أيضا- حديث أبي هريرة:" أكثروا ذكر هاذم اللذات يعني الموت"(الترمذي).
وبعضهم
ضبطه بـهادم اللذات، بعضهم يفرق بين الهاذم والهادم، فيقول: هاذم بمعنى قاطع، وهادم
هو الذي يقتلعها من أصلها.
في الحديث الآخر يقول صلي الله عليه وسلم:":" أكثروا ذكرَ هاذمِ اللَّذاتِ : الموتِ ؛ فإنَّه لَم يذْكُرْه أحدٌ في ضيقٍ مِن العَيشِ إلَّا وسَّعَه علَيهِ ، و لا ذَكرَه في سَعةٍ إلَّا ضيَّقَها عليهِ"(صحيح الجامع).
وقال صلي الله عليه وسلم :"أكثروا ذكرَ هاذمِ اللَّذاتِ : الموتِ ؛ فإنَّه لَم يذْكُرْه أحدٌ في ضيقٍ مِن العَيشِ إلَّا وسَّعَه علَيهِ ، و لا ذَكرَه في سَعةٍ إلَّا ضيَّقَها عليهِ"(صحيح الجامع).
فإذا تذكر
الإنسان الموت انهدمت لذاته، ولذلك الله لما ذكر الجنة ونعيم الجنة
ذكر الخلود فيها؛ لأن ذكر الموت، بل وقوع الموت ينغص عليه لذته، مهما كان الإنسان فيه
من اللذة والنعيم والسرور والحبور، إذا ذكر أنه سينقل في يوم من الأيام ويموت، وهذا
المكان وهذا القصر المشيد سيدخله الناس للعزاء تنغصت عليه لذاته، فلا يغتر بالدنيا
وحطامها وما فيها، ولا يبطر، ولا يترفع على عباد الله تعالي، وإذا كان في لذة فإنها لا تستهويه فينسى ذكر
الله تعالي ولقاءه والعمل لآخرته، وإنما
يأخذ من هذه الدنيا، ومن لذاتها بقدر يبلغه إلى آخرته، ويحتاج هذا إلى إكثار، وهذا
الإكثار يشمل الإكثار منه باللسان والإكثار منه أيضاً بالقلب، يعني: الذكر يشمل ذكر
اللسان، وذكر القلب.
فيتحدث
الناس في مجالسهم عن الموت والأجل وقرب ذلك، من أجل أن يحصل عندهم الاعتبار والتذكر،
فلا تحصل غفلة.
كلما جلسوا
يتحدثون عن الدنيا، أو لذات الدنيا وشهواتها والبيع والشراء والتجارات والعقارات، وما
أشبه ذلك، وينسون الموت، وهو حتم لابد من وقوعه، فلابد لنا من ذكره في المجالس، وأن
يذكره الإنسان أيضاً فيما بينه وبين نفسه، فيكون حاضراً في قلبه دائماً، فإذا لاح له
طمع ذكر الموت، إذا عافس اللذات ذكر الموت.
ولو تبصر
العاقل فإنه يجد كل لذات الدنيا تذكره بالفناء، ما هي أعظم لذات الدنيا؟
العرب يقولون:
الأطيبان الأكل والنكاح، تجد الإنسان في غاية الجوع ويستشرف للطعام، فإذا أكل يتلذذ
أثناء الأكل، لكن بعد الأكل تنقضي هذه اللذة، ولو أكل ثانية لربما يمرض ويتنغص.
وأما النكاح فإنه بمجرد ما تنقضي شهوته وينقضي وطره يذهب ذلك كله وينقشع، فيذكّره بانتهاء لذات الدنيا وانقضائها، وأنها لا تستحق أن الإنسان يبذل ويعيش من أجلها، ما هو حال الكثيرين؟ إن درس فهو يدرس من أجل الدنيا، وإن عمل فهو يعمل من أجل الدنيا فقط، وإن قام وقعد بل حتى بعضهم وإن عبد ربه فهو يعبد من أجل الدنيا، إما رياء وسمعة ليحصّل منزلة في قلوب الخلق، وإما أن يعمل العمل الصالح من أجل الدنيا، مثلاً الزكاة تكون سببًا لبركة المال، وصلة الرحم سبب لطول العمر، إلى آخره، فهو يقوم ويقعد من أجل الدنيا، والله تعالي يقول: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ
الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ
يَعْمَلُونَ"(هود: 15-16).
وصلي اللهم علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم