
من هو صاحب المكس؟ وهل يخلد في النار؟
الحمد لله
والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن المكس
لغة كما قال صاحب عون المعبود: هو النقص والظلم. واصطلاحاً: هو الضريبة التي يأخذها
الماكس وهو العشار -ثم قال- وفي شرح السنة: صاحب المكس هو الذي يأخذ من التجار إذا
مروا به مكساً باسم العشر.
وأما الساعي
الذي يأخذ الصدقة، ومن يأخذ من أهل الذمة العشر الذي صولحوا عليه فهو محتسب ما لم يتعد،
فيأثم بالتعدي والظلم.
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يدخل الجنة صاحب مكس"(أحمد وأبو داود، والدارمي والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم والطبراني ) .
قوله:
"صاحب مكس" المراد به العشار، وهو الذي يأخذ الضريبة من الناس، قال البيهقي:
المكس النقصان، فإذا انتقص العامل من حق أهل الزكاة فهو صاحب مكس.
والمكس
في الأصل الخيانة، والماكس: الحاضر: والمكس: ما يأخذه.
قال الطيبي: وفيه أن المكس من أعظم الموبقات، وعده الذهبي من الكبائر، ثم قال: فيه شبهة من قاطعِ الطريق، وهو شرٌّ من اللص؛ فإن عسف الناس وجدد عليهم ضرائب فهو أظلم وأغشم ممن أنصف في مكسه، ورفق برعيته، وجابي المكس وكاتبه، وآخذه من جندي، وشيخ، وصاحب زاوية شركاء في الوزر، أكالون للسحت.
فإذا كان
التجار هم الذين استأجروا محلات السوق من البلدية أو من مالكها الشرعي فلا يجوز لهذا
الرجل بعد ذلك أن يأخذ منهم زيادة ظلماً دون مقابل، فهذا هو المكس المحرم شرعاً، بل
هو من كبائر الذنوب ففي صحيح مسلم عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في
المرأة الغامدية التي زنت ثم تابت قال: والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب
مكس لغفر له.
قال النووي:
فيه أن المكس من أقبح المعاصي والذنوب الموبقات.
وسواء كان يأخذ ذلك على شكل ضرائب باسمه أو باسم جهة أخرى رسمية
أو غيرها، إلا إذا فرضت الدولة رسوماً على التجار
والأغنياء في حالة عجزها عن توفير الخدمات العامة
ومصالح المسلمين كبناء المدارس والمستشفيات
والطرق، ففي هذه الحالة -إذا علمنا أنها تصرف فيما
أخذت له- فيجب على المسلم أن يؤدي ما فرض عليه إلا
إذا كان فيه إجحاف به لأنه من باب التعاون على البر
والتقوى
كما لا
حرج في جمع ذلك وأما إذا كان الشخص الذي يأخذ المال من التجار هو الذي استأجر السوق
من البلدية أو من مالكه الأصلي فمن حقه أن يطلب عوضاً ممن عرض بضاعته في هذا السوق،
ولعل هذا من الوضوح بحيث لا يقصده السائل.
والحاصل:
أن المكس من كبائر الذنوب ولا يجوز للمسلم أن يرتكبه باسمه الشخصي أو باسم الدولة،
وأن الماكس هو الذي يأخذ أموال الناس ظلماً، وأن ما تأخذه الدولة لمصلحة المسلمين العامة
لا يعتبر مكساً إذا عجزت الخزانة العامة عن القيام بهذه المصالح، ولم يكن هنالك تسيب
أو سوء استخدام في المال العام.
صور المكس وحكمه في الإسلام
قال صلى
الله عليه وسلم في المرأة الغامدية التي زنت فرجمت :"لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ
تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ"( مسلم )
قال النووي رحمه الله : فيه أن المَكْس من أقبح المعاصي والذنوب الموبقات ، وذلك لكثرة مطالبات الناس له وظلاماتهم عنده ، وتكرر ذلك منه ، وانتهاكه للناس وأخذ أموالهم بغير حقها ، وصرفها في غير وجهها " اهـ .
والمَكْس هو الضريبة التي تفرض على الناس ، ويُسمى آخذها (ماكس) أو (مكَّاس) أو (عَشَّار) لأنه كان يأخذ عشر أموال الناس . وقد ذكر العلماء للمكس عدة صور . منها : ما كان يفعله أهل الجاهلية ، وهي دراهم كانت تؤخذ من البائع في الأسواق . ومنها : دراهم كان يأخذها عامل الزكاة لنفسه ، بعد أن يأخذ الزكاة . ومنها : دراهم كانت تؤخذ من التجار إذا مروا ، وكانوا يقدرونها على الأحمال أو الرؤوس ونحو ذلك ، وهذا أقرب ما يكون شبهاً بالجمارك . وذكر هذه الصور الثلاثة في "عون المعبود" ، فقال : في القاموس : المكس: النقص والظلم ، ودراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق في الجاهلية . أو درهم كان يأخذه المُصَدِّق (عامل الزكاة) بعد فراغه من الصدقة . وقال في "النهاية" : هو الضريبة التي يأخذها الماكس ، وهو العشار .
وقال الشوكاني
في "نيل الأوطار" : صاحب المكس هو من يتولى الضرائب التي تؤخذ من الناس بغير
حق" اهـ . والمَكْس محرم بالإجماع ، وقد نص بعض أهل العلم على أنه من كبائر الذنوب
.
وقال ابن حجر المكي في "الزواجر عن اقتراف الكبائر" (1/180) :
(الكبيرة الثلاثون بعد المائة : جباية المكوس , والدخول في شيء من توابعها كالكتابة عليها ، لا بقصد حفظ حقوق الناس إلى أن ترد إليهم إن تيسر. وهو داخل في قوله تعالى :" إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"(الشورى/42).
والمكاس بسائر أنواعه : من جابي المكس
، وكاتبه ، وشاهده ، ووازنه ، وكائله ، وغيرهم من أكبر أعوان الظلمة ، بل هم من الظلمة
أنفسهم , فإنهم يأخذون ما لا يستحقونه ، ويدفعونه لمن لا يستحقه , ولهذا لا يدخل صاحب
مكس الجنة ، لأن لحمه ينبت من حرام . وأيضا : فلأنهم تقلدوا بمظالم العباد , ومن أين
للمكاس يوم القيامة أن يؤدي الناس ما أَخَذَ منهم ، إنما يأخذون من حسناته ، إن كان
له حسنات , وهو داخل في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"أتدرون من المفلس
؟ قالوا : يا رسول الله ، المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . قال : إن المفلس من
أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ، وقد شتم هذا ، وضرب هذا ، وأخذ مال هذا
، فيأخذ هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ
من سيئاتهم فطرح عليه ثم طرح في النار".
قال البغوي :
يريد بصاحب المكس الذي يأخذ من التجار إذا مروا عليه مكسا
باسم العشر . أي الزكاة . قال الحافظ المنذري : أما الآن فإنهم يأخذون مكسا باسم العشر
، ومكسا آخر ليس له اسم ، بل شيء يأخذونه حراماً وسحتاً ، ويأكلونه في بطونهم نارا ,
حجتهم فيه داحضة عند ربهم ، وعليهم غضب ، ولهم عذاب شديد . اهـ .
وقال ابن تيمية رحمه الله في "السياسة الشرعية": ص 115 :
وأما من كان لا يقطع الطريق , ولكنه يأخذ خَفَارة ( أي : يأخذ مالاً مقابل الحماية ) أو ضريبة من أبناء السبيل على الرؤوس والدواب والأحمال ونحو ذلك , فهذا مَكَّاس , عليه عقوبة المكاسين . . . وليس هو من قُطَّاع الطريق , فإن الطريق لا ينقطع به , مع أنه أشد الناس عذابا يوم القيامة , حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في الغامدية : " لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له " ) اهـ .
وقد ذكر المناوي صاحب فيض القدير في شرح الحديث ما نصه"ان صاحب المكس في النار يعني العاشر الذي ياخذ المكس .. يكون يوم القيامة في نار جهنم اي مخلدا فيها ان استحله لانه كافر والا فيعذب فيها مع عصاة المؤمنين ما شاء الله ثم يخرج(ج2ص456..).
يقول الشاطبي في كتابه الاعتصام ج2ص12ما نصه:
"انا اذا قررنا اماما مطاعا مفتقرا الى تكثير الجنود وسد الثغور وحماية الملك المتسع وخلا بيت المال وارتفعت حاجات الجند الى ما لا يكفيهم, فللامام اذا كان عدلا ان يوظف على الاغنياء ما يراه كافيا في الحال الى ان يظهر مال في بيت المال ثم اليه النظر في توظيف ذلك على الغلات والثمار وغير ذلك.
وانما لم ينقل مثل هذا عن الاولين لاتساع بيت المال في زمانهم باختلاف زماننا فانه لو لم يفعل الامام ذلك النظام بطلت شوكة الاسلام وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار.
فاذا عورض هذا الضررالعظيم بالضرراللاحق باخذ البعض من اموالهم فلا يتمارى في ترجيح الثاني على الأول وهو مما يعلم من مقصود الشرع قبل النظر في الشواهد.
وقال العلامة
ابن سعدي في تفسيره للآية: " ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله " فهذا
من أضل الناس ، حيث عرض عليه الهدى ، والصراط المستقيم ، الموصل إلى الله وإلى دار
كرامته ، فلم يلتفت إليه ، ولم يقبل عليه . ودعاه هواه إلى سلوك الطرق الموصلة إلى
الهلاك والشقاء ، فاتبعه ، وترك الهدى . فهل أحد أضل ممن هذا وصفه ؟ ولكن ظلمه وعدوانه
، وعدم محبته للحق ، هو الذي أوجب له أن يبقى على ضلاله ولا يهديه الله ، فلهذا قال
: " إن الله لا يهدي القوم الظالمين "أي : الذين صار" الظالم"
لهم وصفا و"العناد" لهم نعتا ، جاءهم الهدى فرفضوه ، وعرض لهم الهوى ، فتبعوه
. سدوا على أنفسهم أبواب الهداية وطرقها ، وفتحوا عليهم أبواب الغواية وسبلها . فهم
في غيهم وظلمهم يعمهون ، وفي شقائهم وهلاكهم ، يترددون . وفي قوله : " فإن لم
يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم " دليل على أن كل من لم يستجب للرسول ،
وذهب إلى قول مخالف لقول الرسول ، فإنه لم يذهب إلى هدى ، وإنما ذهب إلى هوى .
صاحب المكس في النار
قال المناوي في فيض القدير (٦/ ٤٤٨):
قوله: "لا يدخل الجنة": أي مع الداخلين في الأول من غير عذاب، ولا بأس، أو لا يدخلها حتى يعاقب بما اجترحه، هذا هو السبيل في تأويل أمثال هذه الأحاديث لتوافق أصول الدين، وقد هلك في التمسك بظواهر أمثال هذه النصوص الجم الغفير من المبتدعة.
روى مسلم عن ابي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولايبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله اخوانا المسلم اخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى هاهنا ويشير الى صدره ثلاث مرات بحسب امرىء من الشر ان يحقر اخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله عرضه).
وروى االشيخان في حرمة مال المسلم كذلك عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ان الظلم ظلمات يوم القيامة)وكذلك روى البخاري عن ابي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من كانت عنده مظلمة لاخيه فليتحلله منها فانه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل ان يؤخذ لاخيه من حسناته فان لم يكن له حسنات اخذ من سيئات اخيه فطرحت عليه )
أو كما قال- وكذلك روى البخاري (عن ابن عباس رضي الله عنهما ان رسول الله صلى الله عله وسلم خطب الناس يوم النحر فقال( يا ايها الناس اي يوم هذا قالوا يوم حرام قال فاي بلد هذا قالوا بلد حرام قال فاي شهر هذا قالوا شهر حرام قال ان دماءكم واموالكم واعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا فاعادها مرارا ثم رفع راسه فقال اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت). قال ابن عباس رضي الله عنه: فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته الى امته فليبلغ الشاهد الغائب ..
ولكن هذا
الحديث لا يعني أنه يخلد في النار ، بل يعذب بقدر ما حصل عليه من سيئات الغير التي
طرحت عليه ، ثم بعد ذلك مآله إلى الجنة ؛ لأن المؤمن لا يخلد في النار ، ولكن النار
حرها شديد، لا يصبر الإنسان على النار ولو للحظة واحدة ، هذا على نار الدنيا ، فضلاً
عن نار الآخرة ، أجارنا الله وإياكم منها"