
صلوا كما رأيتموني أصلي الجزء الثالث
القيام في الفرض مع القدرة
"الركن الثاني"
حُكمُ القيامِ في النَّفلِ
حدُّ القيامِ في الصَّلاةِ
الاستقلالُ في القيامِ، وحُكمُ الاعتمادِ على شيءٍ
حُكمُ القيامِ في الصَّلاةِ في السَّفينةِ والطَّائِرَة
الحمد لله رب العالمين والصلاة
والسلام علي أشرف المرسلين وبعد
فنقف اليوم مع الركن الثاني من
أركان الصلاة القيام في الفرض مع القدرة؛
لقول الله تعالى:"حَافِظُواْ
عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ للهِ قَانِتِينَ"(البقرة/238)؛
ولحديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة؟ فقال: "صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطعْ فعلى جنب"(البخاري)؛
ولحديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : "صلّوا
كما رأيتموني أصلّي"(البخاري).
والمرادَ به القيامُ في الصَّلاةِ بإجماعِ المفسِّرينَ
و نقَل الإجماعَ على فرضيَّةِ
القيامِ مع القدرةِ عليه: ابنُ عبدِ البرِّ، وابنُ حزمٍ، وابنُ رُشدٍ،
والنَّوويُّ، وابنُ حجَرٍ، وابنُ نُجَيمٍ
قال ابن عبد البرِّ:"وأوضح
ذلك الإجماعُ الذي لا ريبَ فيه؛ فإنَّ العلماء لم يختلفوا أنه لا يجوز لأحد أن
يُصلِّيَ منفردًا أو إمامًا قاعدًا فريضته التي كتبها الله عليه وهو قادر على
القيام فيها، وأنَّ مَن فعل ذلك ليس له صلاة، وعليه إعادة ما صلَّى جالسًا؛ فكيف
يكون له أجر نصف القائم وهو آثمٌ عاصٍ لا صلاة له؟!... وأجمعوا أنَّ فرض القيام في
الصلاة على الإيجاب لا على التَّخيير"(الاستذكار/2/180).
قال ابنُ حزم: "واتَّفقوا
على أنَّ القيام فيها فرضٌ لِمَن لا علَّةَ به ولا خوف"(مراتب الإجماع/ص:
26).
قال ابنُ رشد: (إنَّ العلماء اتَّفقوا على أنه
ليس للصحيح أن يُصلِّيَ فرضًا قاعدًا إذا كان منفردًا أو إمامًا؛ لقوله تعالى: وَقُومُوا
لِلَّهِ قَانِتِينَ"(بداية المجتهد/1/152).
قال النَّوويُّ:"فالقيام في
الفرائض فرضٌ بالإجماع، لا تصحُّ الصلاةُ من القادر عليه إلَّا به"(المجموع-/258).
قال ابنُ حجر:"ويُحتمَل أن يريد مُطلقًا لعذرٍ
ولغير عذرٍ؛ ليبيِّن أنَّ ذلك جائِزٌ، إلَّا ما دلَّ الإجماعُ على منعِه، وهو صلاةُ
الفريضةِ للصَّحيحِ قاعدًا"(فتح الباري-2/584).
حُكمُ القيامِ في النَّفلِ
القيامُ في النَّفلِ ليسَ
فَرضًا؛ فيجوزُ للقادرِ على القيامِ أن يُصلِّيَ قاعدًا في النَّافلةِ. لماورد عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رضيَ اللهُ عنه، قال:"سألتُ
النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن صلاةِ الرَّجلِ وهو قاعدٌ، فقال: مَن صلَّى
قائمًا فهو أفضلُ، ومَن صلَّى قاعدًا فله نصفُ أجرِ القائمِ، ومَن صلَّى نائمًا فله
نصفُ أجرِ القاعدِ"(البخاري).
وعن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها:"أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ يُصَلِّي جَالِسًا، فَيَقْرَأُ وهو جَالِسٌ، فَإِذَا بَقِيَ مِن قِرَاءَتِهِ نَحْوٌ مِن ثَلَاثِينَ - أوْ أرْبَعِينَ - آيَةً قَامَ فَقَرَأَهَا وهو قَائِمٌ، ثُمَّ يَرْكَعُ، ثُمَّ سَجَدَ يَفْعَلُ في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذلكَ، فَإِذَا قَضَى صَلَاتَهُ نَظَرَ: فإنْ كُنْتُ يَقْظَى تَحَدَّثَ مَعِي، وإنْ كُنْتُ نَائِمَةً اضْطَجَعَ"(البخاري).
ونقل الإجماعَ على جوازِ
النَّفلِ قاعدًا ولو لقادرٍ على القيامِ: ابنُ عبدِ البرِّ، والنَّوويُّ، وابنُ
قُدامةَ
قال ابن عبد البرِّ:"وكان رسولُ الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتنفَّلُ جالسًا؛ فبان بهذا أنَّ النافِلَةَ جائزٌ أن
يُصَلِّيَها مَن شاء قاعدًا، ومن شاء قائمًا، إلَّا أنَّ القاعِدَ فيها على مِثْلِ "نِصْفِ" أجرِ القائِمِ، وهذا كلُّه لا خلافَ فيه، والحمدُ لله"(الاستذكار-2/180).
وقال النَّوويُّ:"يجوز فعل
النافلة قاعدًا مع القدرة على القيام بالإجماع"(المجموع-3/275).
قال ابنُ قُدامة:"لا نعلم خلافًا في إباحة التطوُّع جالسًا، وأنَّه في القيامِ أفضَلُ"(المغني-2/105).
حدُّ القيامِ في
الصَّلاةِ
أن يقفَ منتصِبًا معتدِلًا، ولا يضرُّ الانحناءُ القليلُ، وذلك باتِّفاقِ المذاهبِ الفِقهيَّةِ الأربعة: الحنفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والشافعيَّةِ، والحنابلةِ لماورد عن أبي حُميدٍ السَّاعديِّ رضيَ اللهُ عنه، قال:"أنا أعلَمُكم بصلاةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قالوا: فاعرِضْ، فقال: كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا قام إلى الصَّلاةِ اعتَدَل قائمًا، ورفَعَ يديه حتَّى يحاذيَ بهما مَنْكِبَيْهِ، فإذا أراد أن يركَعَ رفَع يديه حتَّى يحاذيَ بهما مَنْكِبَيْهِ، ثم قال: اللهُ أكبَرُ، وركَع، ثم اعتَدَل، فلم يُصوِّبْ رأسَه ولم يُقنِعْ، ووضَع يديه على رُكبتيه... قالوا - أي الصَّحابةُ رضيَ اللهُ عنهم -: صدَقْتَ، هكذا صلَّى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"(أبوداود).
والقيامُ محدودٌ بالانتصابِ، بحيث لو خرَج عن حدِّ المنتصِبِ إلى حدِّ المنحني الرَّاكعِ باختيارِه: لم يكُنْ قد أتى بحدِّ القيامِ
وأنَّ الانحناءَ إذا كان
يسيرًا لم يمنَعِ اسمَ القيامِ والانتصابِ، وإن كان كثيرًا سلَبه معنى القيامِ
و أنَّ المعتَبَرَ في
الانتصابِ المشروطِ: نَصْبُ فَقارِ الظَّهرِ، فإذا بلَغ انحناؤُه حدَّ الرَّاكعينَ
لم يكُنْ منتصِبًا
وحدُّ القيام عند الحنفيَّة: أن يكون بحيث إذا مدَّ يديه لا ينال رُكبتيه. يُنظر"(الفتاوى الهندية-1/69)،حاشية ابن عابدين-1/444).
الانحناء السالب للاسم عند الشافعيَّة: أن يصيرَ إلى الركوع أقربَ"(روضة الطالبين للنووي-1/233)،
حدُّ القيام عند الحنابلة: أن يكون قائمًا منتصبًا ما لم يصِرْ راكعًا. يُنظر"(الفروع لابن مفلح-2/245)الإنصاف)) للمرداوي (2/81).
موضعُ نظَرِ
المُصلِّي حالَ القيامِ.
قال ابنُ تَيميَّة:"القيام محدودٌ بالانتصاب، بحيث لو خرج عن حد المنتصب إلى حدِّ المنحني الراكع باختياره: لم يكن قد أتى بحدِّ القيام"(مجموع الفتاوى--22/544).
الاستقلالُ في القيامِ، وحُكمُ الاعتمادِ على شيءٍ
يجبُ الاستقلالُ في القيامِ للقادرِ عليه في صلاةِ الفرضِ؛ فلا يصحُّ القيامُ إذا كان معتمِدًا على شيءٍ بحيث لو أُزيلَ لسقَط؛ نصَّ على هذا المالكيَّةِ، والحنابلةِ، وقولٌ للشافعيَّةِ، وذلك لأنه بمنزلة غير القائم"(الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي-1/231)،
حُكمُ القيامِ في
الصَّلاةِ في السَّفينةِ والطَّائِرَة
تجبُ الصَّلاةُ في السَّفينةِ قائمًا عند الاستطاعةِ، وهو مذهبُ الجمهور: المالكيَّةِ، والشافعيَّةِ، والحنابلةِ، وبه قال أبو يوسفَ ومحمَّدُ بنُ الحسَنِ، وابنُ حزمٍ لقولُه تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ"(التغابن: 16).
وقوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:"إذا
أمَرْتُكم بأمرٍ، فأتُوا منه ما استطعتم "(مسلم).
وقولُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم لعِمرانَ بن حُصَينٍ رضيَ اللهُ عنهما وكان مريضًا:"صلِّ قائمًا، فإن
لم تستطِعْ فقاعدًا، فإن لم تستطِعْ فعلى جَنْبٍ"(البخاري).
وجهُ الدَّلالةِ من الآيةِ
والحديثينِ:
أنَّ الأمرَ عُلِّقَ على
الاستطاعةِ، فإذا استطاع الصَّلاةَ في السَّفينةِ قائمًا، وجَب عليه ذلك؛ لأنَّ
القيامَ رُكنٌ في الصَّلاةِ، وإنْ عجَز سقَط عنه..
فالسَّفينةَ يمكنُ للإنسانِ أن
يُصلِّيَ فيها قائمًا ويركَعَ ويسجُدَ لاتِّساعِ المكانِ؛ فالقيامُ مقدورٌ عليه،
فلا يُترَكُ إلَّا لعلَّةٍ..
الصَّلاةُ على الطائرةِ
حُكمُ الصَّلاةِ على الطائرةِ
كحُكمِ الصَّلاةِ على السفينةِ؛ فيجبُ الصَّلاةُ قائمًا، وإلَّا صلَّى حسَب طاقتِه
قال ابنُ حزم:"فإن كان قومٌ في سفينةٍ لا يمكِنُهم الخروجُ إلى البرِّ إلَّا بمشقَّةٍ أو بتَضْيِيعِها، فلْيُصَلُّوا فيها كما يَقْدِرون، بإمامٍ وأذانٍ وإقامةٍ ولا بدَّ، فإن عجزوا عن إقامَةِ الصُّفوفِ وعن القيام لِمَيْدٍ، أو لكونِ بَعْضِهم تحت السَّطْحِ أو لترجح السفينة - صلَّوْا كما يَقْدِرون، وسواءٌ كان بعضُهم أو كلُّهم قُدَّام الإمامِ أو معه أو خَلْفَه، إذا لم يَقْدِروا على أكثَرَ، وصلى مَن عَجَزَ عن القيام قاعدًا، ولا يجزئُ القادرَ على القيام إلَّا القيامُ"(المحلى-3/100).
وقال بعض العلماء :"الواجِبُ
على المسلِمِ في الطائرة إذا حضَرَتِ الصلاةُ أن يصليَها حسَبَ الطَّاقَةِ: فإن
استطاعَ أن يصلِّيَها قائمًا ويركعَ ويسجد فَعَلَ ذلك، وإن لم يستطع صلى جالسًا
وأومَأَ بالرُّكوع والسجود، فإن وجد مكانًا في الطائرة يستطيع فيه القيامَ
والسُّجودَ في الأرض بدلًا من الإيماءِ؛ وَجَبَ عليه ذلك؛ لقول الله سبحانه:
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وقولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
لعِمرانَ بن حُصينٍ رضي الله عنهما وكان مريضًا:"صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع
فقاعدًا، فإنْ لم تستطعْ فعلى جَنْبٍ"(البخاري).
:وزاد النسائي:"فإن لم
تستطع فمستلْقِيًا"(النسائي).
ولا تجوز صلاة الفريضة في السيارة أثناء
سيرها لعذر الخوف من خروج وقتها مع علم المصلي بوصوله قبل خروج وقت الصلاة، وإمكان
نزوله من السيارة وأداء الصلاة بأركانها. لما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي
الله عنهما أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح على الراحلة قبل أي وجه
توجه، ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة. ولأن الأصل في صلاة الفريضة ألا
تؤدى على الراحلة، فمن صلى الفريضة في السيارة أثناء سيرها فقد فوّت على نفسه القيام
بأركان الصلاة التي بفواتها تبطل .
قال النووي في شرح مسلم : وفيه دليل على
أن المكتوبة لا تجوز إلى غير القبلة، ولا على الدابة وهذا مجمع عليه؛ إلا في شدة الخوف.
ا.هـ.
والأفضَلُ له: أن يصلِّيَ في أوَّلِ الوقت، فإن أخَّرَها إلى آخِرِ الوَقْتِ ليُصَلِّيَها في الأرضِ فلا بأسَ؛ لعمومِ الأدلة،
وقال بعضهم:" حكم
الصلاة في الطائرة كالصَّلاة في السفينة: أن يصلِّيَ قائمًا إن استطاعَ، وإلَّا
صلَّى جالسًا إيماءً بركوعٍ وسجودٍ"(صفة صلاة النبي صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم-1/102).