
خير الناس القانع الراضي
الدرس الثاني والعشرون
الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول
الله وبعد فياعباد الله
لازلنا نواصل الحديث حول خير الناس
للناس ومعنا اليوم القانع الراضي بما قسم
الله فقد ورد عن أبي هريرة عن رسول الله
صلي الله عليه وسلم "خِيارُ المُؤمِنِينَ القانِعُ وَشِرَارُهُمُ الطَّامِعُ"(مسند
الشهاب القضاعي).
وروي عنه صلى الله عليه وسلم :"خِيارُ اُمَّتي القانِعُ،
وشِرارُهُمُ الطامِعُ"
وقال
صلّى الله عليه وسلّم :"قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنّعه الله بما
آتاه"(مسلم).
فخير الناس عبد قنع بما رزقه الله وقضي
به ولم ينظر لمن هو أعلي وأفضل منه في رزقه لقوله صلّى الله عليه وسلّم:"انظروا
إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله"(متفق
عليه).
وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال:"سألت
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأعطاني، ثمّ سألته فأعطاني، ثمّ سألته فأعطاني، ثمّ
قال:"يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن
أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالّذي يأكل ولا يشبع؛ اليد العليا خير من اليد السفلى"(متفق عليه).
وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ
أَغْنَى النَّاسِ"(أحمد، والترمذي ).
فخير الناس هو السعيد الحق وهو من رضي بما
قسم الله له , وصبر لمواقع القضاء خيره وشره , وأحس وذاق طعم الإيمان بربه , كما قال
صلى الله عليه وسلم :" ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رضي بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ
دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً"(أحمدومسلم والتِّرْمِذِيّ).
وقوله صلي الله عليه وسلم:"مَنْ قَالَ :" رَضِيتُ
بِاللهِ رَبًّا ، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً ، وَجَبَتْ لَهُ
الْجَنَّةُ"().
خير الناس علم أن للرضا حلاوة تفوق حلاوة
وعذوبة دونها كل عذوبة ، وله من المذاق النفسي والروحي والقلبي ما يفوق مذاق اللسان
فرضي وقنع .
وخير الناس علم :"أن الاضطراب والتفرق والذل
والخوف والفوضى كل ذلك مرهونٌ - سلبًا وإيجابًا - بالرضا بالدين وجودًا وعدماً كما
قال تعالى: " وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ
وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ"(آل عمران/85).
والرضا هو السياج الذي يحمي المسلم من تقلبات
الزمن , وهو البستان الوارف الظلال الذي يأوي إليه المؤمن من هجير الحياة .
والإنسان بدون الرضا يقع فريسة لليأس,وتتناوشه
الهموم والغموم من كل حدب وصوب .
قال تعالى :"قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى
أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى"(طـه/84).
وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم :"وَلَسَوْفَ
يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى"(الضحى/5).
ولقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
النموذج والمثل الأعلى في الرضا بما قسم الله تعالى . فعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود
، قَالَ:اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَصِيرٍ ، فَأَثَّرَ في
جَنْبِهِ ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ ، جَعَلْتُ أَمْسَحُ جَنْبَهُ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ ، أَلاَ آذَنْتَنَا حَتَّى نَبْسُطَ لَكَ عَلَى الْحَصِيرِ شَيْئًا ؟ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَا لي وَلِلدُّنْيَا ، مَا أَنَا وَالدُّنْيَا
، إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ الدُّنْيَا ، كَرَاكِبٍ ظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ، ثُمَّ
رَاحَ وَتَرَكَهَا"(أحمدوالتِّرمِذي).
ولقد اقتدى الصحابة رضوان الله عليهم بالنبي صلى الله عليه وسلم في القناعة والرضا , فعَنْ مَالِكِ الدَّارِ، أن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ، أَخَذَ أَرْبَعَ مِائَةِ دِينَارٍ، فَجَعَلَهَا فِي صُرَّةٍ، فَقَالَ لِلْغُلامِ:"اذْهَبْ بِهِمْ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ، ثُمَّ تَلَّهُ سَاعَةً فِي الْبَيْتِ، سَاعَةً حَتَّى تَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ، فَذَهَبَ بِهَا الْغُلامُ إِلَيْهِ"،
فَقَالَ: يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: اجْعَلْ هَذِهِ فِي بَعْضِ حَاجَتِكَ، فَقَالَ: وَصَلَهُ اللَّهُ وَرَحِمَهُ، ثُمَّ قَالَ: تَعَالِي يَا جَارِيَةُ، اذْهَبِي بِهَذِهِ السَّبْعَةِ إِلَى فُلانٍ، وَبِهَذِهِ الْخَمْسَةِ إِلَى فُلانٍ، حَتَّى أَنْفَذَهَا، فَرَجَعَ الْغُلامُ وَأَخْبَرَهُ، فَوَجَدَهُ قَدْ أَعَدَّ مِثْلَهَا إِلَى مُعَاذِ بن جَبَلٍ، فَقَالَ:"اذْهَبْ بِهَذَا إِلَى مُعَاذِ بن جَبَلٍ وَتَلَّهُ فِي الْبَيْتِ حَتَّى تَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ"، فَذَهَبَ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: اجْعَلْ هَذَا فِي بَعْضِ حَاجَتِكَ،
فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ
وَوَصَلَهُ، تَعَالي يَا جَارِيَةُ، اذْهَبِي إِلَى بَيْتِ فُلانٍ بِكَذَا، وَاذْهَبِي
إِلَى بَيْتِ فُلانٍ بِكَذَا، فَاطَّلَعَتِ امْرَأَةُ مُعَاذٍ، فَقَالَتْ: نَحْنُ وَاللَّهِ
مَسَاكِينُ، فَأَعْطِنَا، وَلَمْ يَبْقَ فِي الْخِرْقَةِ إِلا دِينَارَانِ، فَدَحَا
بِهِمَا إِلَيْهَا، وَرَجَعَ الْغُلامُ إِلَى عُمَرَ، فَأَخْبَرَهُ وَسُرَّ بِذَلِكَ،
وَقَالَ:"إِنَّهُمْ إِخْوَةٌ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ"(الطبراني وأبو نعيم).
وهذا هو التابعي الجليل عروة بن الزبير
رضي الله عنه قد توفى ابنه وفاةً غاية في الصعوبة إذ دهسته الخيل بأقدامها، وقُطِعت
قدم عروة في نفس يوم الوفاة، فاحتار الناس على أي شيءٍ يعزونه.. على فقد ابنه أم على
قطع رجله؟فدخلوا عليه، فقال: "اللهم لك الحمد، أعطيتني أربعة أعضاء.. أخذت واحدًا
وتركت ثلاثة.. فلك الحمد؛ وكان لي سبعة أبناء.. أخذت واحدًا وأبقيت ستة.. فلك الحمد؛
لك الحمد على ما أعطيت، ولك الحمد على ما أخذت،أشهدكم أنِّى راضٍ عن ربي " ..
قال الشاعر:
فليتك تحلو والحيــاة مريرة *** وليتك ترضى
والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرًا*** وبيني وبين
العالمين خرابُ
إذا صحَّ منك الودُّ فالكلُّ هيِّنٌ***وكل
الذي فوقالتراب تراب
وخير الناس المؤمن يدرك تماما أن الله جعل
له هذه الدنيا دار اختبار وامتحان من اجتازه بنجاح عبر إلى دار أخرى الخير فيها من
الله عميم يُنَادِى مُنَادٍ فيها :" إِنَّ لَكُمْ تَصِحُّوا فَلاَ تَسْقَمُوا
أَبَدًا ، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلاَ تَمُوتُوا أَبَدًا ، وَإِنَّ لَكُمْ
أَنْ تَشِبُّوا فَلاَ تَهْرَمُوا أَبَدًا ، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلاَ تَبْتَئِسُوا
أَبَدًا ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :"وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ
أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"(أحمد ومسلم).
فتذكر – أيها الحبيب - قول النبي صلى الله
عليه وسلم :" عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا
أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا ، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ
السُّخْطُ"(التِّرْمِذِيّ
و ابن ماجة)
خير الناس علم جيداً أن الغنى الحقيقي ليس المال ولاالعقار وإنما غني
النفس
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال قَالَ رَسُولُ
اللهِ صلى الله عليه وسلم :لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى
غِنَى النَّفْسِ"( أحمد والبُخاري والترمذي).
وعَنْ عَمْرو بنِ عَوْفٍ الأَنْصَارِيّ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ للأنصار
ذات يَوْمٍ:
حينما سَمِعَتِ الأَنْصَارُ أَنَّ أَبَا
عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِمَالٍ مِنْ قِبَلِ الْبَحْرَيْنِ ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم بَعَثَهُ عَلَى الْبَحْرَيْنِ ، فَوَافَوْا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله
عليه وسلم صَلاَةَ الصُّبْحِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
تَعَرَّضُوا ، فَلَمَّا رَآهُمْ تَبَسَّمَ ، وَقَالَ : لَعَلَّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ
أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ قَدِمَ ، وَقَدِمَ بِمَالٍ؟ قَالُوا : أَجَلْ ،
يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : قَالَ : أَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا خَيْرًا ، فَوَاللهِ ،
مَا الْفَقْرُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ ، وَلَكِنْ إِذَا صُبَّتْ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا
، فَتَنَافَسْتُمُوهَا كَمَا تَنَافَسَهَا مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ.(متفق عليه).
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَخَيْرُ مَا أُلْقِيَ
فِي الْقَلْبِ الْيَقِينُ، وَخَيْرُ الْغَنَى غِنَى النَّفْسِ، وَخَيْرُ الْعِلْمِ
مَا نَفَعَ، وَخَيْرُ الْهَدْيِ مَا اتُّبِعَ وَمَا قَلَّ، وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ
وَأَلْهَى"(البيهقي).
نعم خير الناس القانع لراضي بما قسم الله
وصلي اللهم علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم