recent
أخبار عاجلة

أئمة المذاهب الأربعة وتعايشهم مع مخالفيهم

  


أئمة المذاهب الأربعة وتعايشهم مع مخالفيهم


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين وبعد فيقول الله تعالي:" وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا  أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ "(يوتس/99-100).

حديثنا اليوم عن الأئمة الأربعة الأعلام الذين ملئوا طباق الأرض علماً بأخلاقهم وتعايشهم مع الناس وقبل أن نتحدث عن ملكة التعايش عندهم نتعرف أولاً علي ملولدهم ونشأتهم وأصولهم وترتيبهم ووضعهم الاجتماعي والمالي وكتبهم ومؤلفاتهم ..

فعن مولدهم فقد جاءوا جميعًا من مدن كبرى، أي عاشوا محتكين بالناس في مجتمعات كبيرة، اثنان منهم وُلِدا في العراق، واثنان وُلِدا في الحجاز. أما العراق، فقد ولد الإمام أبو حنيفة عام 80 للهجرة في الكوفة التي كانت مقرًّا للخلافة الإسلامية أيام سيدنا علي بن أبي طالب، والإمام أحمد بن حنبل الذي ولد في بغداد، فهذان يمثلان مدرسة العراق. وأما الحجاز، فقد ولد الإمام مالك في المدينة، والإمام الشافعي في غزة بفلسطين لكنه - وهو في الثالثة من عمره - عاد إلى مكة بعد وفاة أبيه، وهو في الأصل من مكة، فهذان يمثلان مدرسة الحجاز.

أما عن أصولهم

فاثنان من أصول عربية، أحدهما: الشافعي فهو قرشي، ومن نسب النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر أحمد بن حنبل من بني شيبان، وهي قبيلة عربية كبيرة، ومنها المثنى بن حارثة - أول من حارب الفرس في الفتوحات الإسلامية-. واثنان من أصول غير عربية، أحدهما: أبو حنيفة فأصله فارسي، والآخر الإمام مالك إذ يقال إن أصله من الموالي، وهذه نقطة خطيرة في التعايش، فقبل الإسلام لم يكن العربي ليقبل أن يتبع أحدًا من غير العرب، فهل يعقل أن الإسلام غيرَّهم لهذه الدرجة؟ بينما اليوم، نجد داخل المجتمع الواحد طبقة ترفض الأخرى ويُنظر للناس على أساس الجنسية أو الغنى والفقر!

وعن ترتيبهم الزمني

 نرتب الأئمة الأربعة ترتيبًا زمنيًا: فأولهم الإمام أبو حنيفة، يليه الإمام مالك، ثم الإمام الشافعي، وأخيرًا الإمام أحمد بن حنبل. وكلهم تتلمذوا على يد بعض، فأحمد بن حنبل تلميذ الشافعي، والشافعي تلميذ مالك، وأحمد والشافعي تتلمذا على تلاميذ أبي حنيفة، فأحمد بن حنبل تلميذ أبي يوسف، والشافعي تلميذ محمد بن الحسن. وكلهم مختلفون في الفكر. وهذا يبين لنا كيف أن التعايش لا يعني الذوبان وفقدان الشخصية، وفي الوقت نفسه، يحب ويحترم بعضهم بعضًا. فهل يمكنك أن تكون شخصية منفتحة ومتعايشة دون أن تفرّط بثوابتك؟

  وضعهم الاجتماعي والمالي

اثنان منهم أغنياء، واثنان فقراء؛ أبو حنيفة ومالك من الأغنياء، فأبو حنيفة تاجر غني جدًّا لكنه كان إذا جالس الفقراء لم يحسبوه غنيًّا. والشافعي وأحمد بن حنبل من الفقراء، ومع ذلك يتودد لهما الملوك والأمراء. وبالمناسبة، كلهم أشكالهم جميلة، وكلهم طوال القامة، اثنان منهم أبيضا البشرة وهما أبو حنيفة ومالك. وقد كان مالكًا أشقرَ أزرقَ العينين، واثنان أسمران.

وعن كتبهم ومؤلفاتهم

 ثلاثة منهم قد ألّفوا كتبًا، وواحدًا لم يؤلف. فالشافعي وضع فكره في كتاب أسماه "الرسالة". وأحمد بن حنبل جمع "مسند الإمام أحمد بن حنبل". ومالك كان أول من ألف، فكتب كتابه "الموطأ"، أما أبو حنيفة فلم يؤلف كتابًا، لكنه صنع رجالاً، والرجال هم الذين كتبوا كلامه. وقد قام أبو حنيفة بعمل عجيب، فقد اتفق مع أصحابه أن يعملوا ضمن فريق، وأن يناقشوا كل مسألة، والرأي الذي يتفقون عليه في النهاية هو الذي يُكتَب، وليس رأي أبي حنيفة الشخصي، أي أنه عمل أكاديمية أو مَجْمَعًا فقهيًّا، فصار تلامذته يعشقون هذا اللقاء الذي يجمع عددًا كبيرًا من طلاب العلم. واستمر هذا المَجْمَع ثلاثين عامًا حتى إن بعض العلماء الكبار في ذلك الوقت تركوا حلقاتهم وانضموا لمجلس أبي حنيفة من أجل مصلحة الإسلام. فليستمع الغرب الذي يتحدث عن العصف الذهني وفرق العمل ماذا فعل أبو حنيفة منذ ذلك الزمن؟!

وعن متوسط أعمارهم :"

نجد أنهم عاشوا طويلاً: أبو حنيفة 77 سنة، ومالك 86 سنة، وأحمد بن حنبل 77 سنة، والوحيد الذي مات صغيرًا كان الشافعي 54 سنة لكن كان له إنتاج غزير. ولم يحدث لأيٍّ منهم أن انفضَّ الناس عنه قبل موته، وليس السبب في علمهم فقط- وإن كان العلم أساسيًّا بالطبع- لكن هناك أمرًا آخر، هل هو التعايش؟ هل هو القدرة على التعامل مع الناس؟ كان الإمام أبو حنيفة في الحج، فجلس إلى الحلاق ليحلق رأسه، فسأله أبو حنيفة: كم سأدفع لك؟ أجابه الحلاق: لا يصح في النسك أن نتشارط على المال، فاستأذنه أبو حنيفة في كتابتها، ثم عاد فجلس فقال له الحلاق: استدر نحو القبلة فهذا نسك، فكتبها أبو حنيفة، ثم قال له الحلاق: كَبِّرْ وهلِّل إنها نُسك، فجعلها أبو حنيفة في فقهه وقال: تعلمتُ من الحلاق خمسة مسائل في الفقه لم أكن أعلمها من قبل، ولعل هذا من أسرار تفوقهم، أنهم لا يستكبرون على التعلم من أحد. وهذا الإمام مالك، قد بدأ حلقته وكان له من العمر 17 سنة واستمر حتى مات. وطوال هذه المدة كان الحضور بالآلاف حتى اضطر للاستعانة بمن يساعده في النظام فكان ينادي: (ليدخل أهل الحجاز) فلا يدخل غيرهم، (ليدخل أهل الشام)، (ليدخل أهل مصر). ويقال إنه لم يشتهر في تاريخ المسلمين - في عصرهم بعد الخلفاء الراشدين - مثل الشافعي وأحمد بن حنبل. وكان الشافعي أينما انتقل يجتمع له عشرات الآلاف في مسجد عمرو بن العاص بمصر وفي المسجد الجامع بالعراق .

 تعايشهم مع مخالفيهم

من يتعلم التعايش مع الغير سينجح في التعامل مع الناس. اليوم، يخسر الشخص جاره لأبسط سبب - إن خسارة إنسان واحد لأمرٌ عظيم-، فكيف تكون طريقة تفكيرنا أنني أريد أن أكسب الناس ولا أخسرهم؟ وهناك قاعدة تقول: لو أن ألفَ شخصٍ راضون عنك، وواحدًا فقط ليس براضٍ فاركضْ نحو هذا الشخص، ولا يعني هذا أنك لن تخسر أحدًا كما لا يعني التعايش أنك منافق. فالأئمة الأربعة أُوذوا وسُجنوا وضُربوا، فهم متعايشون مع الجماهير وفي الوقت نفسه أصحاب مبدأ. والتعايش لا يعني أنك لن تصاب بأذى، بل هو طريقة تفكير. وكان الإمام أحمد يقول لخصومه: بيننا وبينكم الجنائز، وقد خرج في جنازته عشرات الآلاف حتى سُدَّت الطرق، بينما من تسببوا في إيذائه وسَجْنِهِ ماتوا لا يُذكَرون. كيف يكون الإيذاء بسبب المبدأ رغم التعايش؟ هذا أبو حنيفة كان متعايشًا مع الخليفة، وكان يحترم الخلافة العباسية إلى أن طلب منه الخليفة أن يتولى أمر القضاء فرفض لأنه لم يجد حرية القضاء متحققة، فعُذِّب وضُرِب بالسياط حتى قالت له أمه: اقبل، قال: يا أمي إنْ قبِلتُ فَقَدْتُ الدنيا والآخرة. لكنه مع ذلك قال لتلميذه أبي يوسف: أراك ستكون قاضيًا وسيتغير الزمن، قال: كيف أقبلُ القضاء وأنت رفضته؟ قال: وهل زمنك مثل زمني؟ القضاء عظيم لكن ما أنا فيه هو ما منعني. فانظروا إلى التوازن والتعايش

دور المرأة في حياتهم

فالمرأة لها دور كبير في حياة الأئمة الأربعة، وهذا أمر ربما يَخفَى على الكثيرين. فأحمد بن حنبل وراءه أمه التي مات زوجها وهي شابة فرفضت الزواج حتى تربيه. والإمام الشافعي وراءه أمه التي قالت له: قد نذرتك للعلم لعل الله يجمع بك الأمة. ففكرة التعايش وجمع الأمة كانت عند أم الشافعي وغرستها به وحثته على تعلم كل ما يمكن أن يجمع به الأمة حتى كان إمام التعايش. والإمام مالك وراءه أمه إذ أنقذته، فقد كان يسير في طريق مختلف تمامًا فحوَّلت مساره بذكاء الأم دون قهر. فيا أمهات، بالله عليكن نريد أن نستفيد من قصص الأئمة الأربعة ونُخرج أبناءً بهذه الصورة. وكانت ابنة الإمام مالك تجلس خلف الجدار أثناء الدرس، وأحد تلامذته يقرأ والإمام مالك يعلق، فكانت لو أخطأ الرجل طرقت على الجدار لتنبه أباها فهي تحفظ كتابه الموطأ مثله تمامًا. وقد كان ممن تعلم الإمام مالك العلم على أيديهم: عائشة بنت سعد بن أبي وقاص. كذلك الإمام الشافعي حين انتقل إلى مصر ذهب ليتعلم على يد السيدة نفيسة بنت الحسن بن علي، ولم يأنف أن يتتلمذ على يد امرأة. أما الإمام أبو حنيفة فكان للنساء مكان مخصص في حلقته ضمن طلاب العلم الثلاثين الذين يشاورهم في الفتاوى.

 ثم انظروا إلى تعايش أبي حنيفة مع الأم التي ترى ابنها صغيرًا مهما كبر. فذات يوم، حلفت أمه يمينًا، وأرادت أن ترجع فيه، فسألته فأفتاها لكنها أبت القبول منه وقالت له: بل أذهب إلى زرعة القاص - وزرعة القاص عابد يحبه الناس ولكنه ليس فقيهًا-، فلو أن غير أبي حنيفة مكانه لربما رفض وقال: لها ستفضحينني أمام الناس، ولكن أبا حنيفة أخذ أمه إلى زرعة القاص وأرسل له يقول: لو جاءك سؤال كذا فجوابه كذا، فلما دخلوا على زرعة قالت له: أفتنا، قال: أفتيكِ ومعكِ إمام الأمة؟! فقال له أبو حنيفة: أفتها، فأجابها بمثل جواب أبي حنيفة فقبلت منه.

 الأئمة الأربعة والعبادة:فقد كانوا قدوة كاملة وكان كلامهم موافقًا لعملهم، وهذا هو سر نجاحهم. فكانت عبادتهم عظيمة فتراهم يصومون ويقومون الليل، حتى إن الإمام أبا حنيفة قام ليلةً يصلي بآية: "فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ . إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ" (الطور:27،28)، فجاءه أحدهم ليستفتيه وجده يقرأها فذهب ثم رجع فوجده ما زال يصلي بها ويبكي.

 الأئمة الأربعة ومواهب أخرى:وقد كان لديهم مواهب أخرى غير الفقه، فالإمام أحمد كانت لديه موهبة الخط الرائع، والإمام الشافعي لديه موهبة الشعر، وهو القائل: نعيبُ زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيبٌ سوانا، والإمام مالك والتفكير في مصلحة الناس.

 التعايش مع الآخر فخر وعزة

أنا أتكلم عن تاريخنا، وأقول للغرب: اسمعوا تاريخنا. وأقول للمسلمين في الغرب: اندمجوا في المجتمع حولكم وأنتم فخورون بهذا الانتماء. وأقول لشبابنا: افتخروا بثقافتنا وتعايشوا دون ذوبان. وأقول لأهل فلسطين ولأهل لبنان وأهل العراق: تاريخنا جميل فمن المعيب أن نختلف فيما بيننا هكذا والعالم يسخر منا، نريد أن نتعايش في البيت، مع الأزواج، مع الأولاد، مع الجيران والأقارب إلى أن نصل للتعايش مع كل الأمة..

وصلي الله علي سيدنا محمد وعلي أله وصحبه وسلم 

google-playkhamsatmostaqltradent