
دعاء الخوف والأمن حسبنا الله ونعم الوكيل
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف
المرسلين وبعد
فهناك ثَمَّة عَلاقة بين يقين المؤمن بالله وترديده لقول حسبنا الله ونعم الوكيل ،
إنه أجمع دعاء للأمن والخوف، دعاءٌ جمع مقامات الأدعية ومرَّ على كل مستوياتها
وجلاها..
"حَسْبُنَا
اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ": تعني العقيدة الراسخة التي لا يخالطها شكٌّ ولا
ريبٌ في أن الله الحسيب والناصر والمعين، وأنه صاحب المدد والتوفيق، وأن هذا العبد
دون قوة الله وفتحه وغوثه لا شيء:
إِنْ مَسَّنَا الضُّرُّ أَوْ ضَاقَتْ بِنَا الحِيَلُ
فَلَنْ يَخِيبَ
لَنَا فِي رَبِّنَا أَمَلُ
اللهُ فِي كُلِّ خَطْبٍ حَسْبُنَا وَكَفَى
إِلَيْهِ
نَرْفَعُ شَكْوَانَا وَنَبْتَهِلُ
قال تعال:"وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ، إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ"،
فمن يتوكل على الله يكفيه ما أهمه، فالله بالغ أمره. فما قدَّر الله كان، وما لم
يشأ لم يكن، فالتوكُّل عليه هو توكُّل على القويِّ القادر الفعَّال لما يريد.
والتوكل أن يوقن العبد
بكفاية الربِّ، قال الجنيد: "التوكل هو سُكُون الْقَلْب إِلَى مَوْعُودِ
اللهِ عَزَّ وَجَلَّ"، وقال بعضهم: "التوكل هو علم القلب بكفاية الربِّ
للعبد".
وليعلم العبد أن
الله إذا خصَّه بخير، فلن يقفَ أحدٌ مهما بلغت قوَّته دون هذا الخير، وإن قدَّر عليه
ضرًّا، فلن يقف أحد مهما بلغت قوته دون نزول هذا الضر، رفعت الأقلام وجفَّت الصحف،
وفي هذا يقول تَعَالَى:"وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ
أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ
عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ"(الزمر: 38).
فإنهم إذا كذَّبوا
وأعرضوا عن الإيمان بالله، فأخبرهم أن الله وحده هو المعبود، وأنه خالق الخلق
النافع الضار وَأَن سواه عاجز من كل وجه مستجلبًا كفايته، مستدفعًا مكرَهم وشرَّهم
وأذاهم:"قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ"(الزمر:
38)، ولأنها تقال عند الشدائد فما أعظم شديدة ستمر على الإنسان؟
دعِ الخوف جانبًا
وكن قويًّا بصلتك بربك وخالقك، ومدبِّر أمرك، فإنه حسبك وكافيك، ولا تجعل الهم
يبيض، ويفرِّخ في رأسك ولا تتماهى مع الأحزان والمواجع، ولا تشغل نفسك بما يراد
لك، واعلم أن من أكبر وظائف الشيطان أن يقنعك بأنك ستفتقر وتذل وتضعف، والله يعدك
مغفرته ورزقه وكرمه، فلا تتحمل من الهمِّ ما لا تطيق، ولا تقلق فأمرك كله بيد
الله، وما أجمل ما قال الشاعر:
يَا صَاحب الهمِّ
إنَّ الهمَّ منفرج
أبشر بخيرٍ فإن
الْكَافِي اللهُ
الله حَسبُك مما
عُذْت مِنْهُ بِهِ
وَأَيْنَ أمنع ممن
حَسبُه اللهُ
إذا كان الله حسبَك
فأنت في منعة وعزٍّ وجاه وسلطان ورفعة، حتى وإن كنتَ مُقلًّا مغمورًا لا مال ولا
جاه ولا سلطان؛ لأنك تستمد قوتك وسلطانك وجاهك وعزتك من القوي العزيز..
ولتعلم أن أصل
التوحيد هو التعلق بالله والارتباط بجنابه؛ إذ لا خلاص من كل محنة ولا نجاة من كل
كربٍ إلا بدوام التعلق به: ﴿ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ
كَرْبٍ ﴾ [الأنعام: 64].
فإذا تعلق القلب بكافيه وحسيبِه القوي، تناهى في ذلِّه
وعبوديته، فصغُر كلُّ ما حوله، وإذا التجأ العبد إلى ربه في كل حال، استشعر هيمنة
الله على الحياة؛ إذ لا يجري شيء في هذا الكون إلا تحت سمعه وبصره وعلمه ومشيئته،
وقدرته وإرادته، وإذا استشعر هيمنة الله على الكون والحياة والأحياء، عرف معنى
تفويض الأمر إلى ربه، وأنه الكافي الحسيب عز وجل، وعبدٌ هذا حاله مع ربه قَمِنٌ
أَن يَحفَظَه رَبه ويَكفِيهِ؛" وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ
حَسْبُهُ"(الطلاق: 3).
قالها وعاش معهاإبراهيم عليه السلام :"
حين اجتمعوا عليه، وقرَّروا أن يلقوه في النار، فجعلها
الله بردًا وسلامًا عليه، وكانت أيامه في النار هي أطيب أيام دنياه؛ لأنه عاش في
نعيمٍ معجَّل يكتنفه البرد والسلام، فالمؤمن يجد الأمن في قلب الخوف، والطمأنينة
في وسط القلق، فعشْ معها وتذوق حلاوتها واستمتع بأُنسها.. حسبي الله ونعم الوكيل
تسري كما تسري النار في الهشيم قالها إبراهيم حين ألقي في النار فكان بين إلقاءه
في النار وتحولها برداً وسلاماً هي "حسبي الله ونعم الوكيل"
فَيَا رَبِّ أَنْتَ اللهُ حَسْبِي وَعُدَّتِي
عَلَيْكَ اعْتِمَادِي
ضَارِعًا مُتَوَكِّلَا
قالها إبراهيمُ عليه
السلام حين أُلقي في النار، فجَعَلَ اللهُ النارَ برداً وسلاماً
عليه،"قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدَاً وَسَلَامَاً عَلَى
إِبْرَاهِيمَ" فلا يمكن لشيء أن ينفع أو يضر إلا بإذن الله تعالى، فالله هو
الذي جعل النار محرقة فهي لا تحرق بذاتها، فإذا أراد لها أن تكون برداً وسلاماً
صارت كذلك، قال ابن عباس: "لو لم يتبع بردها سلاماً لمات إبراهيم من شدَّة
بردها".
فالله الذي جعل
النار برداً وسلاماً هو الذي يجعل المِحَن مِنَحاً وعطايا، ويجعل الفقرَ والحاجةَ
سعةً وغنى، ويجعل الهمومَ والأحزانَ أفراحاً ومسرَّات، ويجعل المنعَ عطاءً ورحمةً،
وهذا كلُّه لمن توكَّل على الله تعالى وأيقن به وأحسن الظن بالله سبحانه.
ومتى كان العَبْدُ حَسَنَ الظنِّ بالله، حَسَنَ الرجاءِ له، صادقَ التوكُّلِ عليه : فإن اللهَ لا يخيب أمله فيه، فإنه سبحانه لا يخيب أمل آمل، ولا يضيع عمل عامل.
قالها النبي محمد صلي الله عليه وسلم في مواقف
عديدة
يوم حمراء الأسد:"
لقد جمع العدو لهم وحشدوا، ولكن الواثق بربه لا يهمُّه
ذلك الأمر بقدر ما يهمه اتصال حبلُه بالله تعالى؛ قال ابن إسحاق :"كان أحُد
يوم السبت للنصف من شوال، فلما كان الغد يوم الأحد سادس عشر من شوال، أذَّن مؤذنُ
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو، وألا يخرج معنا إلا من حضر
بالأمس، فاستأذنه جابر بن عبدالله في الخروج معه فأذِن له، وإنما خرج مرهبًا
للعدو، وليظنوا أن الذي أصابهم لم يوهنْهم عن طلب عدوِّهم"،
مشهدُ النبي صلى الله عليه وسلم وهو يردِّد: حسبُنا الله ونعم الوكيل، مشهدٌ عظيمٌ لا يُمكن أن يفارق الذاكرةَ، وهو الملطَّخ بالدم المكسورة ثنيتُه، ووجهُه المصاب بالشجاج، وهو يتحرك معلنًا النفيرَ، شعارُه: حسبنا الله ونعم الوكيل، يُخلِّد القُرآن هذه اللحظة مِن التاريخ، يقتنِص المشهد اقتناصًا بليغًا، ثُمَّ يوقفنا عليه! فيوم أحد أُصيبَ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بجراحات بالغة، وكانت معركة قاسية عليهم فقدوا فيها سبعين، وأثخَن العدوُّ فيهم،
ومع ذلك توقَّع النبي صلى الله عليه وسلم أن يباغته العدو ويرجع مرة أخرى، فقرَّر أن يقوم بعملية تعقُّب لهم ومطاردة، لئلا يظنَّ العدوُّ أن الجراح قد أنهكتْهم، فخرَج بأصحابه حتى بلغوا حمراءَ الأسد، وعندها سمِع النبي صلى الله عليه وسلم أن المشركين يريدون العودة للإجهاز على المسلمين واستئصال شأْفتهم، عندها أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يعتصموا بـ"حسبنا الله ونعم الوكيل وكان حالهم وديدنهم؛ كما قال الله :"الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"(آل عمران: 173).
عن عائشة رضي الله عنها أنها: قرأت قول الله تعالى :"الَّذِينَ
اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ"(آل
عمران: 172)، فقالت لعروة ابن أختها:"يا بن أختي كان أبوك منهم الزبير وأبو
بكر، لَما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد، فانصرف عنه المشركون
خاف أن يرجعوا، فانتدَب منهم سبعين رجلًا كان فيهم الزبير وأبو بكر"(البخاري).
وقد سار النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى بلغوا ذلك المكان في حمراء الأسد، وهو على بُعد ثمانية أميال من المدينة المنورة، فعسكروا هناك وأقاموا فيها ثلاثة أيام أشعلوا فيها النيران، وأعادوا ترتيبَ الجيش، وازدادوا حماسًا، فهابَهم المشركون ولم يَجسروا على لقائهم، غير أن أبا سفيان حاول أن يشنَّ حربًا نفسية ضد المسلمين، فقد مرَّ به رَكْبٌ من عبدالقيس يريد المدينة، فقال لهم: هل أنتم مُبلغون عني محمدًا رسالة، وأوقَر لكم راحلتكم هذه زبيبًا بعكاظ إذا أتيتم إلى مكة؟ قالوا: نعم، قال: فأبلغوا محمدًا أنَّا قد أجمعنا الكَرَّة (الرجعة)؛
لنستأصله ونستأصلَ أصحابه، فمرَّ هذا الركب بالنبي صلى الله عليه وسلم
وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال صلى الله عليه وسلم هو
والمسلمون: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، لقد قال لهم الناس مخوِّفين
ومرهبين:"إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ
إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"(آل عمران: 173)،
واستمر المسلمون صامدين ثابتين في معسكرهم، فخاف أبو سفيان ومَن معه وآثروا
السلامة ورجعوا يجرون أذيالهم إلى مكة.
فإن لقيتَ في الحياة من يُرهبك ويرعبك، فردِّد ما قاله
محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قيل لهم:" إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا
لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ"(آل عمران: 173)، وذاك هو شأن الواثق بربه المتوكِّل عليه
المستنصر به، ورحم الله الشاطبي إذ يقول:
وما خابَ ذو جدٍّ إذا هو حَسبَلا
أمرالله نبيه أن يقولها إذا تولي عنه الناس
"حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ"، عاش
معها النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة أحد وقد تكالبت عليه الهموم، وآلمته
الكلوم، وسالتْ منه الدماء، وأوجَعه فقدُ الأصحاب والأخلَّاء والأقرباء، فكانت
النتيجة التي ذكرها الله:" فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ
لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ
عَظِيمٍ"(آل عمران: 173 – 174).
واسمع إلى خطاب الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم
يطمئنهُ من كيد كلِّ معرضٍ: " فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
"(التوبة: 129).
والمعنى: فإن تولَّى يا محمد هؤلاء الذين جئتهم بالحق
وأدبروا عنك، فقل: حسبي الله يكفيني هو ربي وناصري ومعيني، عليه أتوكَّل وبه
أستعين، يكفيني ما أهَمَّني، وإليه فَوَّضْتُ جميع أموري، فإنه ناصري ومعيني، وهو
ربُّ العرش العظيم، الذي هو أعظم المخلوقات. (فقل حسبي الله)؛ أي: الله كافي، لا
إله إلا هو عليه توكلت، كما قال تعالى:" رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا "(المزمل: 9).
وقد أمرَه الله حالَ تولِّيهم أن يقول هذه الكلمة؛ لأن
توليهم ناشئٌ عن حقد وغلٍّ وكرهٍ، وتلك حالة مظنَّة السعي في الكيد والأذى، ولذا
أيَّده الله بقوله:" فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ"(الأنفال: 62]، وهذا أعظم
سلاح وأكبر مدافع، فمن يكن الله حسبَه، فلو كادت له السماوات والأرض، لجعل الله من
بينها فرجًا ومخرجًا،
"الَّذِينَ
قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ
فَزَادَهُمْ إِيمَانَاً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ".
(حَسْبُنَا اللهُ)
أي الله كافينا، (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، لمن وَكَل حاجته إليه وتوكل في قضائها
عليه.
فماذا كان جزاؤهم:
(فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ
وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ).
لقد انتصروا عندما
أيقنوا أنَّ الله معهم فتوكلوا عليه، وعلموا أنَّ النصر من عند الله، (فَلَمْ
تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ
اللهَ رَمَى).
قالها النبي وأمر أصحابه أن يقولوها وقت الخوف من القيامة
ولقد كان النبي صلى
الله عليه وسلم يتخيَّل دائمًا هذا الحدث الهائل، ولقد شاب من هود وأخواتها، وفي
هذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح -: "كَيْفَ
أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ، وَاسْتَمَعَ الْإِذْنَ
مَتَى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ، فَيَنْفُخُ" فثَقُلَ ذلكَ عَلَى أَصْحَابِه -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فَقَالَ لَهُمْ: قُولُوا حَسْبُنَا اللهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا".
فعندما داهَمهم
الخوف بشأن أهوال القيامة كانت أنسب كلمة أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إليها
هي هذه الكلمة التي تعد سلاحًا واقيًا يقيهم هذا الهول، ويدفع عنهم هذه المخافة
العظيمة التي تعدُّ أعظم مخافة في حياة البشرية، وهي دمارُ الكون بأكمله، ومشاهدة
هذا الحدث الجلل المُرعب الذي تنخلعُ القلوب لِمْرَآه.
قالتها عائشة وقت أن اتهمت في حادث الإفك
زوراً
وتقال هذه الكلمة عند الخوف من الطعن في العرض واتِّهامك بما لم تفعل، أو تقويلك ما لم تقُل، أو إلصاق السوء بك، فهذه عائشة رضي الله عنها تمرُّ بأصعب موقف في حياتها وتعصف بها حادثة الإفك عصفًا، حتى لتظنُّ أن البكاء فالقُ كبدِها، ثم ينزل الله آيات في براءتها تتلى إلى يوم القيامة،
وإذا ما لمحنا
ذلك الحوار بينها وبين زينب بنت جحش، عرَفنا كلمة السر، واكتشفنا سرَّ الكلمة التي
عاشت معها، بل استفتحت بها ما وقع معها، اسمع إليها وهي تَحكي القصةَ، وتُفصح عن
هذا السر المَكنون: "فَعَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، وَزَيْنَبَ
بِنْتِ جَحْشٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا تَفَاخَرَتَا، فَقَالَتْ
زَيْنَبُ: زَوِّجْنِيَ اللهُ، وَزَوَّجكُن أَهَالِيكُنَّ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ:
نَزَلَتْ بَرَاءَتِي مِنَ السَّمَاءِ فِي الْقُرْآنِ. فَسَلَّمَتْ لَهَا زَيْنَبُ،
ثُمَّ قَالَتْ: كَيْفَ قُلْتِ حِينَ رَكِبْتِ رَاحِلَةَ صَفْوانَ بْنِ
الْمُعَطَّلِ؟ فَقَالَتْ: قُلْتُ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَقَالَتْ
زَيْنَبُ: قُلْتِ كَلِمَةَ الْمُؤْمِنِينَ".
لقد عاشت متدرعة بالصبر منتظرة انتظار الواثق بالله رؤيا
يراها النبي صلى الله عليه وسلم في شأنها، وإذا بالوحي ينزل قرآنًا يتلى إلى يوم
القيامة:
تَصبَّر عسَى كُلُّ الصعابِ تَهونُ
وَلَا تَبتئِس إِن أَتعَبتكَ ظُنونُ!
وَحَسبكَ أَن الله جَل جَلالُهُ
إذَا قَالَ "كُن" للمُستَحيلِ يَكونُ
حسبنا الله ونعم الوكيل تقال إذا خاف الإنسان من بطش ظالم
يبحث الإنسان في المخاوف عن سند يحميه، ولَجَأٍ يلجأ
إليه، بل يبحث حتى عن قشَّة يتعلق بها، لهذا عندما تلهج بهذا الذكر أنت تُغالب
نفسك في ألا تركن إلا إلى الله، وألا تعتمد على سواه، وأن البشر جميعًا ما هم إلا
أسباب، فإن شاء قوَّاها وإن شاء قطَعها، فكل العون منه وحده، فكن به وإليه حتى
تنقلب بنعمة منه وفضل لم يمسسْك سوءٌ، وإنَّ كل موطن شدةٍ هو مقياسٌ لاختبار مستوى
إيمانك وقوة يقينك بربك، فالمؤمن مع الألم يجد البلسم، ومع الخوف يبصر الأمن، ومع
المحنة يلمح المنحة، وفي العسر يبصر اليسر..
وإنَّك لتعجب ممن داهَمه الخوف وسيطر عليه الجزع، وتَملَّكه القلق، كيف لا يفزع إلى الحسبلة، ويتخذها درعًا واقيًا له، ولو أنه قال: حسبنا الله وكفى، لسمع الله مناجاته، فقد سمع الله من دعا واتَّجه إليه وارتجا، وما أجمل ما ختم به الشاطبي مقدمته إذ يقول:وعجبتُ لمن يتعدَّى على الناس ويقهرهم، ويبطش بهم ويظلمهم، ويسومهم سوء العذاب،
وهو يسمع حسبلتهم ويسمع مناجاتهم بـ"وَقَالُوا
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" ألا يعلم أن هذا أمضى سلاح فتَّاك،
وأن هذه الكلمة تخترق السبع الطباق ناصرة لقائلها، فهذا يَزِيدُ بنُ حَكِيمٍ
يَقُولُ: "مَا هِبْتُ أَحدًا قَط هَيبَتِي رَجُلًا ظَلَمتُهُ، وَأَنَا
أَعلَمُ أَنَّهُ لَا نَاصِرَ لَهُ إِلَّا اللهُ، يَقُولُ لِي: حَسبِيَ اللهُ،
اللهُ بَينِي وَبَينَكَ".
هذه الكلمة هي بوصلة الطريق في الرغب والرهب في البر
والبحر، أتعرف أن الشيطان يريدك أن تُشرع مراكِبك ثم تتقاذفك الأمواج وتهزك
القواصف، ثم تتوهُ في عَرض البَحر بلا بَوْصلة؟
أوَّاهُ على أوقاتنا الضائعة وزماننا المنصرم، كم فرَّطنا في هذه الكلمة، إنها عدة في السراء والضراء، وبها ينال المرء الدرع الواقي والحصن الحصين من كل ما يحذر..
"حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ
الوَكِيلُ"، منهج حياة
اجعلها منهج
حياة تردِّدها في صبحك ومسائك، عند الغروب والشروق، في الحل والترحال، بها تلوذ
وتعتصم، هي سلاحك قبل كلِّ سلاح، وقوَّتك قبل كلِّ قوةٍ، وهي مصدرك إن شحَّت
المصادر، ومفزعك إذا ادْلَهمَّت الخطوب، وذكرك عند حصول المرهوب أو رجاء المرغوب،
وهي كفايتك فحسب وكفى بها من كفاية.
"حَسْبُنَا اللهُ" كلمة التجاء تستشعر معها
اسمَ الله الحسيب، ومن كان الله حسبه كفاه، وآواه، ونجَّاه:
وَإِذَا العِنَايَةُ لَاحَظَتْكَ عُيُونُهَا
نَمْ فَالمَخَاوِفُ كُلُّهُنَّ أَمَانُ
هو وحدَه عز وجل من يكفي عبده من كل همٍّ، ويدفع عنه كل ضرٍّ، (وَنِعْمَ الوِكْيلُ): أَي كَفِيلٌ على أُمورك، يقوم عز وجل على ما يصلحك، يجنِّبك ما تحذر ويعطيك ما ترجو، ويمنع عنك بحكمته ما يضر أو يبعدك عنه لطيفٌ بك..
جُلْ بخاطرك وتأمَّل بفكرك، وانظُر هل هناك ما هو أشد من
وقعة القيامة ونفخ الصور، وبعثرة ما في القبور وزلزلة الأرض، ونسْف الجبال، وتكوير
الشمس وخسْف القمر، وانكدار النجوم وتسجير البحار وتغيير نظام الكون؟
لا يوجد مخافةٌ أعظمُ من هذه المخافة، والموت جزءٌ من
هذه المخافة؛ لأن من مات فقد قامت قيامته، فهذا الهول هو أعظم هولٍ في حياة
البشرية، وهذه المخافة هي أعظم المخافة في حياة الإنسانية، ولا يوجد كرب أعظم من
هذا البتَّة،
قالها يقولها أصحاب البلاء
وتقال أيضًا هذه الكلمة عند نزول البلاء، ففي الصحيحين
من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: «لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ... وَبَيْنَا صَبِيٌّ
يَرْضَعُ مِنْ أُمِّهِ، فَمَرَّ رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّةٍ فَارِهَةٍ
وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ، فَقَالَتْ أُمُّهُ:"اللَّهُمَّ اجْعَلْ ابْنِي مِثْلَ
هَذَا، فَتَرَكَ الثَّدْيَ، وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ:
اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهِ فَجَعَلَ
يَرْتَضِعُ - قَالَ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَحْكِي ارْتِضَاعَهُ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ فِي
فَمِهِ فَجَعَلَ يَمُصُّهَا - وَمَرُّوا بِجَارِيَةٍ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا
وَيَقُولُونَ: زَنَيْتِ سَرَقْتِ، وَهِيَ تَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ ابْنِي مِثْلَهَا،
فَتَرَكَ الرَّضَاعَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا"(
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).
قال شراح الحديث: "فَإِنَّهُمْ لَمَّا ضَرَبُوا
الْجَارِيَةَ وَهِيَ مَظْلُومَةٌ، قَالَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَإِنَّمَا
أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ
لِلاقْتِدَاءِ..".
كأني بهم يضربونها ويسبونها وهي تبتهل إلى الله بهذه
الكلمة وتستنصره بها، والله وحده يعلم، وإنه إذا اشتدَّ الكرب وعظُم الخطب، جعلها
الله خلاصًا لمن يستمسك بها، وأنعم بالله كافيًا وحسيبًا ومنقذًا.
والحسبلة ليست في دفْع النِّقمِ فحسبُ، بل حتى في جلب
النعم قال تعالى:" وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا
إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ"(التوبة: 58، 59)، فإذا كررت الحسبلة رجاءَ فضل
الله وكرمه، رأيت من عجائبها الجمَّة ما يبعث على الدهشة، وأعرف عالِمًا جليلًا
جاء من يشكو إليه الفقر، فأشار عليه بتكرار الحسبلة وتكرار هذه الآية بالذات،
فانهمرت عليه غيوث الكرم الإلهي.
فالتعلق بالكافي الحسيب استعلاء وعز وغنى وكرامة،
والتعلق بما دونه ضَعفٌ وحاجة وذل وَهَوَانٌ ومهانَة.
التعلق بالكافي الحسيب والعيش مع "حسبنا الله ونعم
الوكيل"، برهان ناصع على التوحيد، ودليل واضح على الإيمان، وبهذا التعلق تحيا
الهمم الفاترة، وتستيقظ النفُوس الغافلَة، وينبعث غيث الذل والافتقار وهذا والله
مقام العارف بربه الذي يُجزى عليه الجزاء الأَوفَى.
إن المؤمن الحق دومًا يسلم لله الأمر، لعلمه أن لله حكمة
في كل قضاء يقضيه، ولأنه يعلم أنه هو عز وجل المدبر لأمره القائم على مصالحه
الكفيل بها حاله:
للهِ سلمتُ أمرًا لستُ أَعلمهُ
مالي على حِملِه لكن سَأرضاهُ
ربَّاهُ لولاكَ لا سندٌ ولا أحدٌ
فأنتَ حَسبي وَحَسبي أنَّكَ اللَّهُ
اجعل هذه الكلمة شعارك عند خوف المكاره واشتداد البأساء،
وإذا اقترب منك الأعداء وليكن حالك:
وجَعلْتُ ذخري أنَّ حسبيَ خالقي
أنْعِمْ بربِّ العالمينَ وَكيلا!
اجعلها شعارك حينما تضيق عليك الحال، وتخشى المآل، وليكن
يقينك بربك كبيرًا، فمن كان الله حسبه فمم يخاف؟ ومن كان الله وكيله فممن يحذر
ويرتهب؟
لتكن عقيدتك الراسخة وثقتك المطلقة في هذه الكلمة كبيرة
لا حدود لها كثقة إبراهيم عليه السلام والملائكة تَعرِض عليه النصرة، وهو يردِّد
هذه الكلمة مستقبِلًا ألسنةَ النار دون أدنى خوف؛ إذ لا ناصر إلا الله، ولا كافي
إلا الله، ولا حسيب إلا الله، لقد كان حال إبراهيم عليه السلام حينها:
حسبُنا الله لا نريدُ سواهُ
من كفيلٍ ولا نريدُ ضمينَا
ليكن هذا الابتهالُ صادقًا، تستشعر فيه اسمَ الله
الحسيب، والحسيب هو: الكافي لعبادهِ في دفع المضار عنهم، الحافظ لهم من كلِّ
مكروهٍ، والوكيل هو القائم على أمورهم، المدبِّر لشؤونهم بسَعة علمه وكمال قدرته
وعظيمِ حكمتهِ.
من القصص التي تواترت عن الشيخ المفسِّر عبدالرحمن
السعدي أن رجلًا فقيرًا ذا عيال كان يتردَّد عليه كل عام في القصيم، فيُعطيه الشيخ
ريالين من الزكاة، وظل على هذه الحالة أكثر من عشر سنوات وفي السنة الأخيرة خيَّره
الشيخ السعدي بين الريالين، وبين فائدة تنفعه في حياته كلها، حاوَل الجمع بين
الأمرين، لكن أصرَّ الشيخ إما المال أو الفائدة، وبعد تردُّد شديد، وهو يتذكَّر
أهلَه الجياع، وتشوُّفه للفائدة التي سينتفع بها حياته كلها استخارَ الله، ثم
اختار الفائدة!
كانت هذه الفائدة التي أفاده بها الشيخ هي تكرار قوله تعالى:" رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا"(المزمل: 9)،
وقد أمره الشيخ حينها أن يكررها دائمًا وأبدًا في كل أوقاته، وأخبره أنه سيجدُ من بركتها شيئًا مُذهلًا، ومضى الرجل وهو مهموم يكرِّر الآية، ولما وصل لأقرب منطقة يعرف أهلها، عرَض عليه أحدُهم شراءَ جملٍ له مع كمية من التمر وأصرَّ عليه، وبعد تردُّدٍ اشترى الجمل دَينًا، وأطعم نصف التمر أهله وباع الباقي، وجعل يحتطب على جمله ويبيع، ولا يفتر عن ترديد الآية ليلًا ونهارًا،
وخلال ثمانية أشهر سدَّد دَين الجمل والتمر، ووسَّع الله عليه
وانفتحت عليه أبواب الرزق، وبعد سنوات يسيرة جاء إلى الشيخ، ولكن هذه المرة حمل
معه ثمانية ريالات، فقدمها بين يدي الشيخ، وقال له هذه زكاة مالي، وأصبح بعد ذلك
يأتي كل سنة بأضعافها إلى الشيخ زكاة، وأصبح من أغنياء البلد.
لا ترى كيف وسَّع الله عليه ورزقه رزقًا واسعًا، وفتح
عليه من فتوحه وما ذاك إلا لأنه اتَّخذ الله وكيلًا، ومن اتَّخذ الله وكيلًا، فنعم
وكيله، ومن أعظم من الله حسيبًا ووكيلًا.
حسبي الله ونعم الوكيل " من أعظم الأدعية الواردة
في الكتاب والسنة الصحيحة ، ويمكننا تفصيل الحديث عن هذا الدعاء في المطالب الآتية
:
أولا : دليل مشروعيته
وردت مشروعيته في القرآن الكريم في حكاية الله عز وجل عن
الصحابة الكرام في أعقاب معركة أُحُد ، في " حمراء الأسد "، وذلك حين
خوَّفهم بعضُ المنافقين بأن أهل مكة جمعوا لهم الجموع التي لا تهزم ، وأخذوا
يثبِّطون عزائمهم ، فلم يزدهم ذلك إلا إيمانا بوعد الله ، وتمسكا بالحق الذي هم
عليه ، فقالوا في جواب جميع هذه المعركة النفسية العظيمة : حسبنا الله ونعم الوكيل
.
يقول عز وجل : "الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ . الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ
وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو
فَضْلٍ عَظِيمٍ"( آل عمران/172-174).
بل ورد في صحيح البخاري رحمه الله (رقم/4563) أن تلك
الكلمة كانت على لسان أولي العزم من الرسل ، قالها إبراهيم عليه السلام في أعظم
محنة ابتلي بها حين ألقي في النار ، وقالها سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم في
مواجهة المشركين في " حمراء الأسد ".
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال :
( حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ : قَالَهَا
إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِي فِي النَّارِ ، وَقَالَهَا
مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا : ( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا
لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ )
ثانيا : معنى هذا الدعاء
يقول العلماء إن معنى : حسبنا الله : أي الله كافينا ،
فالحسب هو الكافي أو الكفاية ، والمسلم يؤمن بأن الله عز وجل بقدرته وعظمته وجلاله
يكفي العبد من كل ما أهمه وأصابه ، ويرد عنه بعظيم حوله كل خطر يخافه ، وكل عدو
يسعى في النيل منه .
وأما معنى : ( نعم الوكيل )، أي : أمدح من هو قيِّم على
أمورنا ، وقائم على مصالحنا ، وكفيل بنا ، وهو الله عز وجل ، فهو أفضل وكيل ؛ لأن
من توكل على الله كفاه ، ومن التجأ إليه سبحانه بصدق لم يخب ظنه ولا رجاؤه ، وهو
عز وجل أعظم من يستحق الثناء والحمد والشكر لذلك .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" أي : الله وحده كافينا كلَّنا " انتهى من
" منهاج السنة النبوية " (7/204)
" ( حَسْبُنَا ) أي : كافينا في مهماتنا وملماتنا ،
( وَنِعْمَ الْوَكِيل ) إنه نعم الكافي جل وعلا ، فإنه نعم المولى ونعم النصير .
ولكنه إنما يكون ناصرا لمن انتصر به واستنصر به ، فإنه
عز وجل أكرم الأكرمين وأجود الأجودين ، فإذا اتجه الإنسان إليه في أموره أعانه
وساعده وتولاه ، ولكن البلاء من بني آدم ، حيث يكون الإعراض كثيرا في الإنسان ،
ويعتمد على الأمور المادية دون الأمور المعنوية " انتهى من " شرح رياض
الصالحين " (1/542)
ثالثا : فضل هذا الدعاء .
هو من أعظم الأدعية فضلا ؛ وأعلاها مرتبة ، وأصدقها لهجة
؛ لأنه يتضمن حقيقة التوكل على الله عز وجل ، ومَن صَدَق في لجوئه إلى ربه سبحانه
حقق له الكفاية المطلقة ، الكفاية من شر الأعداء ، والكفاية من هموم الدنيا ونكدها
، والكفاية في كل موقف يقول العبد فيه هذه الكلمة يكتب الله عز وجل له بسببها ما
يريده ، ويكتب له الكفاية من الحاجة إلى الناس ، فهي اعتراف بالفقر إلى الله ،
وإعلان الاستغناء عما في أيدي الناس .
ومع ذلك ، فننبه إلى أنه لم يرد في حديث خاص أن من قالها كان له من الأجر كذا وكذا ، لكن قول الله سبحانه وتعالى :" وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) الطلاق/3، ؛ دليل على أن من توكل على الله حق التوكل ، وعده الله سبحانه أن يكفيه ما أهمه ، ويكون حسيبه وحفيظه ، فلا يحتاج إلى شيء بعده ، وكفى بذلك فضلا وثوابا ؛ فإن من كفاه الله سَعِدَ في الدنيا والآخرة بقدرة الله وعزته وحكمته ،
ولذلك قال تعالى في الآية الأخرى : ( وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) الأنفال/49، بل كان
جزاء المؤمنين في أعقاب " أُحُد " حين قالوا هذه الكلمة أن رجعوا بفضل
الله عز وجل وكرامته وحفظه : ( فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ
لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ
عَظِيمٍ ) آل عمران/174. ينظر: " زاد المعاد " (2/330)
رابعا : مواضع مناسبة الدعاء بـ " حسبنا الله ونعم الوكيل "
يناسب هذا الدعاء كل موقف يصيب المسلم فيه هم
أو فزع أو خوف ، وكذلك كل ظرف شدة أو
كرب أو مصيبة ، فيكون لسان حاله ومقاله الالتجاء إلى الله ، والاكتفاء بحمايته
وجنابه العظيم عن الخلق أجمعين .
وقد ورد في ذلك حديث ضعيف جدا عن أبي هريرة رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إِذا وَقَعْتُمْ فِي الأَمْرِ العَظِيمِ
فَقُولوا : حَسْبُنا الله وَنِعْمَ الوَكِيلُ"(ابن مردويه).
وعَنْ عَوْفِ
بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا
أَدْبَرَ : حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ ،
وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"(أبوداود).
وعن أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" كَيْفَ أَنْعَمُ
وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ التَقَمَ القَرْنَ وَاسْتَمَعَ الإِذْنَ مَتَى يُؤْمَرُ
بِالنَّفْخِ فَيَنْفُخُ ، فَكَأَنَّ ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُمْ : قُولُوا : حَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ ، عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا"(الترمذي).
ولذلك بوب النسائي على هذا الدعاء بقوله : " مَا
يَقُول إذا خَافَ قوما " انتهى من " عمل اليوم والليلة " (ص/392)
وذكره ابن القيم رحمه الله في " الفصل التاسع عشر
في الذكر عند لقاء العدو ومن يخاف سلطاناً وغيره " انتهى من " الوابل
الصيب " (ص/114)
ونلاحظ مما سبق أن هذا الدعاء يمكن أن يقال في مواجهة
المسلم الظالم ، وليس فقط الكافر ، كما يمكن أن يلجأ إليه المهموم أو المكروب أو
الخائف بسبب تعدي أحد المسلمين .
وأما الظالم الذي قيل في حقه هذا الدعاء فليس له إلا
التوبة الصادقة ، وطلب العفو ممن ظلمهم وانتهك حقوقهم ، ورد المظالم إلى أهلها ؛
وإلا فإن الله عز وجل سيكون خصمه يوم القيامة ، وغالبا ما يعجل له العقوبة في
الدنيا ، فإن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب .
والله أعلم .