recent
أخبار عاجلة

مفهوم العبرة في القرآن الكريم للشيخ عبدالناصر بليح



مفهوم العبرة في القرآن الكريم

الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد فياعباد الله

حديثنا إليكم اليوم عن "مفهوم العبرة في القرآن الكريم"    

وأخذ العبرة والعظة من القرآن من الأمور المهمَّة التي تبيِّن قيمةَ القرآن الكريم وأهميَّته للفرد والمجتمع والأمَّة؛ حيث إن القرآن الكريم مليء بالمواعظ النَّافعة، والعِبَر الساطعة، التي يستطيع الإنسان من خلالها أن يتعلَّم من أخطاء غيره، ويدرك السُّنَن التي بها ينتصر النَّاس وينهزِمون، ويعلم الأسباب التي بها يَنجو النَّاس، والأخطاء التي بها يهلكون..

عباد الله :" ومفهوم العبرة هي مايؤدي إلي الاتعاظ بما مضى وبما حصل للأقوام السابقة.كقصص السابقين التي ينتقل الذهن من معرفتها إلى معرفة عاقبتها وعاقبة أمثالها. وهي أيضا ما يدل عليَ الطريق إلي معرفة الله تعالى و الخضوع و الخشوع له.. فالسعيد الذي وعظ بغيره والشقي من وعظ به غيره.. 


 عباد الله:" وبتتبع مواضع لفظ (عبر) وما اشتق منه في القرآن الكريم نجد أنه جاء في تسعة مواضع، موضعين منها بصيغة الفعل، أحدهما: قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام ورؤيا ملك مصر:"إن كنتم للرؤيا تعبرون"(يوسف:43). 

والثاني: قوله سبحانه:"فاعتبروا يا أولي الأبصار"(الحشر:2). وجاء في سبعة مواضع بصيغة الاسم، من ذلك قوله عز وجل:" لَقَدْكَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ" (يوسف:111).  


عباد الله :" وأهل العبرة هم من ينتفعون بالعبرة  و هم أربعة كما ذكرهم القرآن الكريم

أولًا: المؤمنون وهم المصدقون بكل ما جاء عن الله ، ومن ثم كانوا هم المنتفعين بالعبرة .قال تعالى :"أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ"(النحل: ٧٩). 

ألم ينظر المشركون إلى الطير مذللات للطيران في الهواء بين السماء والأرض بأمر الله؟ ما يمسكهن عن الوقوع إلا هو سبحانه بما خَلَقه لها، وأقدرها عليه. إن في ذلك التذليل والإمساك لَدلالات لقوم يؤمنون بما يرونه من الأدلة على قدرة الله.أما غير المؤمنون فلا ينتفعون بالعبرة. 


ثانيًا: أولو الأبصار:"وهم قوم ألقى الله في قلوبهم نورًا يرى به حقائق الأشياء وبواطنها، وهذا النور بمثابة البصر للنفس يرى به صور الأشياء وظواهرها. والمتتبع لكثير من آي القرآن الكريم يلحظ ربط القرآن الانتفاع بالعبرة بمن لديه نور البصيرة.قال تعالى:" يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ"(النور/٤٤). فأصحاب الأبصار هم المنتفعون دون غيرهم بالعبرة.

عباد الله :" والصنف الثالث أولو الأباب :"و هم ذوو العقول السليمة الذي يعتبرون بعقولهم فيدرون ما فيه مصالح دينهم.قال تعالى:"لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ "(يوسف/111 ).

لقد كان في نبأ المرسلين الذي قصصناه عليك وما حلَّ بالمكذبين عظة لأهل العقول السليمة. ما كان هذا القرآن حديثًا مكذوبًا مختلَقًا، ولكن أنزلناه مصدقًا لما سبقه من الكتب السماوية، وبيانًا لكل ما يحتاج إليه العباد من تحليل وتحريم، ومحبوب ومكروه وغير ذلك، وإرشادًا من الضلال، ورحمة لأهل الإيمان تهتدي به قلوبهم، فيعملون بما فيه من الأوامر والنواهي.

وقال تعالى:"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ"(آل عمران/190). 

ولهذه الصفات المجتمعة فيهم جعل الله الانتفاع بالعبرة الواقعة قي قصص الأنبياء منوطة بأولي الألباب.


عباد الله والصنف الرابع  أهل الخشية:" وأهل الخشية هم الذين اتصفوا بالخوف من الله تعالى، لكنه خوفٌ نابعٌ عن علم وفهم وتدبر لما تؤول إليه عواقب الأمور، فهو خوف مع إجلال وهيبة قال  تعالى:"إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ "(فاطر: ٢٨ ). 

وهذا يفسر لماذا أهل الخشية هم أهل العبرة؛ لأن خوفهم نابع من تأملهم واعتبارهم بمآلات الأمور، وعواقبها. وهذا ما أكده القرآن الكريم حينما عقب على قصة موسى عليه السلام قال تعالى:"إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَىٰ"(النازعات/٢٦). 

فأهل الخشية جمعوا بين قلب يتأثر، وعقل يتدبر. فقلوبهم من شأنها أن تخشى الله وتتقيه، وتخاف عقوبته، وتحاذر غضبه. وعقولهم من شأنها أن تدبر في عواقب الأمور ومصايرها، فينظرون في حوادث الماضين، ويقيسون بها أحوال الحاضرين ليتعظ بها . ومن ثم كان أهل الخشية هم أهل العبرة ؛ لأن الذين يخشون الله هم أهل المعرفة الذين يفهمون دلالة الأشياء على لوازمها وخفاياها.


عباد الله :" ولكن هناك طائفة يمكن تسميتها بـ"المعطلة" التي تعطل الجوارح والحواس التي من خلالها يتحقق الاعتبار عن القيام بوظيفتها، قال تعالى في شأنهم:" وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ"(الأعراف/179).

قال ابن كثير:"ليس ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله  سببا للهداية"

مصداقاً لقوله تعالي :" وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا  وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا"(الكهف/57). يقول عزّ ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"وَإنْ تَدْعُ يا مُحَمَّد هؤلاء المعرضين عن آيات الله عند التذكير بها إلى الاستقامة على محجة الحق والإيمان بالله، وما جئتهم به من عند ربك "فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا"يقول: فلن يستقيموا إذا أبدا على الحقّ، ولن يؤمنوا بما دعوتهم إليه، لأن الله قد طبع على قلوبهم،وسمعهم وأبصارهم.عباد الله توبوا إلي الله واستغفروه ..

الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله وبعد:" قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ"(الروم/42).

عباد الله :" وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا فنشبه حالنا بحالهم ونقيس أواخر الأمم بأوائلها، فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين، ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان

فعندما سئلت والدة الصحابي الجليل أبو الدرداءرضي الله عنهما- عن أفضل ما كان يحب ابنها أبو الدرداء من العبادة. أجابت: التفكر والاعتبار. كان أبو الدرداء كثير الاعتبار، وينظر في أحوال الأمم السابقة ليأخذ منها العبرة والعظة، وينسب إليه مقوله "تفكر ساعة خير من عبادة ليلة"

 كان أبو الدرداء يأخذ من كل حدث ومشاهدة مادة لعبرة جديدة، فعندما فتحت قبرص وحُملت الغنائم الى المدينة المنورة، رآها فبكي، فقال له جبير بن نفيل متعجبا:يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الاسلام وأهله؟ فأجابه أبوالدرداء:"ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله اذا هم تركوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة، لها الملك، تركت أمر الله، فصارت إلى ما ترى".


وعندما أصبح أبو الدرداء واليا للقضاء في الشام خطب في الناس يوما " يا أهل الشام ، أنتم الاخوان في الدين، والجيران في الدار، والأنصار على الأعداء، ولكن مالي أراكم لا تستحيون؟! تجمعون مالا تأكلون، وتبنون مالا تسكنون، وترجون مالا تبلغون، قد كانت القرون من قبلكم يجمعون فيوعون، ويؤملون فيطيلون، ويبنون فيوثقون،

 فأصبح جمعهم بوراً، وأملهم غروراً، وبيوتهم قبوراً، أولئك قوم عاد، ملئوا ما بين عدن الى عمان أموالا وأولاداً"ثم ابتسم بسخرية وقال:"من يشتري مني تركة آل عاد بدرهمين؟! وكان أبو سليمان الداراني  كثير التفكر والاعتبار، ويقول إني لأخرج من منـزلي، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة، أو لي فيه عبرة". اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ..

عباد الله أقول قولي هذا وأقم الصلاة.

google-playkhamsatmostaqltradent