
مكارم أخلاق الرسول صلي الله عليه وسلم
لفضيلة الشيخ عبدالناصربليح
الحمد لله رب العالمين ..وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في سلطانه .. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله اللهم صلاة وسلاما عليك يا سيدي يا رسول الله وعلي آلك وصحبك وسلم .
أما بعد فيا جماعة الإسلام يقول الله تعالي :"لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا "(الأحزاب / 21).
عباد الله أمرنا
المولي عزوجل أن نتأسى بأخلاقه صلي الله عليه وسلم فهو الأسوة والقدوة وما أحوجنا لأن
نتخلق بأخلاق الرسول صلي الله عليه وسلم ونقتدي به فهو خير أسوة وخير قدوة -
وقد امتدحه المولي عزوجل بقوله :" وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ"(القلم /4).وقال عن نفسه :"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"(مسند البزار).وقال :"إنما أنا رحمة مهداه ".
(الحاكم ).
والناظر في سيرة رسول الله صلي الله عليه وسلم يجدها مثلاً
حيًّا لحسن الخلق، حيث لخص رسول الله الهدف من بعثته في قوله :"إنما بعثت لأتمم
صالح الأخلاق"(البخاري). ولما سأله أبو بكر الصديق :"ما كل هذا الأدب الجم يا
سول الله قال :"أدبني ربي فأحسن تأديبي"(السخاوي). فكان يدعو إلى الله بأخلاقه، كما يدعو إليه بأقواله.
ولذلك لما سُئِلَت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خُلُقِهِ
صلى الله عليه وسلم قالت: "كان خُلُقُهُ القُرآن"(مسلم). فجميع ما في القرآن الكريم من أخلاق وآداب وفضائل ومكارم
متمثّلة في شخصيته وحياته صلى الله عليه وسلم، فقد تأدب بآدابه، وتخلق بأخلاقه، فما
مدحه القرآن، كان فيه رضاه، وما ذمه القرآن، كان فيه سخطه،وقالت عائشة رضي الله عنها:
كان خلقه القرآن، يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه"(البخاري).
وقد أحسن شوقي في تعداد بعض أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم
العظيمة، وخِصاله الكريمة، وشمائله المباركة، حين قال:
زَانَتْكَ فِي الخُلُقِ العَظِيمِ شَمَائِلٌ *** يُغَرَى
بِهِنَّ وَيُولَعُ الكُرُمَاءُ
وَالحُسْنُ مِنْ كَرَمِ الوُجُوهِ وَخَيْرُهُ *** مَا أُوتِيَ
القُوَّادُ وَالزُّعَمَاءُ
فَإِذَا سَخَوْتَ بَلَغْتَ بِالجُودِ المَدَى *** وَفَعَلْتَ
مَا لاَ تَفْعَلُ الأَنْوَاءُ
وَإِذَا عَفَــوْتَ فَقَــادِرًا وَمُقَـــــدَّرًا *** لاَ
يَسْتَهِينُ بِعَفْوِكَ الجُهَلاَءُ
وَإِذَا رَحِمْـــتَ فَأَنْــــتَ أُمٌّ أَوْ أَبٌ ***هَذَانِ
فِي الدُّنْيَا هُمَا الرُّحَمَاءُ
وَإِذَا غَضِبْتَ
فَإِنَّمَا هِيَ غَضْبَةٌ *** فِي الحَقِّ لاَ ضِغْنٌ وَلاَ بَغْضَاءُ
وَإِذَا رَضِيتَ
فَذَاكَ فِي مَرْضَاتِهِ *** وَرِضَـــا الكَثِيرِ تَحَلُّــمٌ وَرِيَـاءُ
وَإِذَا خَطَبْتَ فَلِلمَنــــــــَابِرِ هِزَّةٌ *** تَعْرُو
النَّدِيَّ، وَلِلقُلُوبِ بُكَـــاءُ
وَإِذَا قَضَيْتَ
فَلاَ ارْتِيَابَ كَأَنَّمَا *** جَاءَ الخُصُومَ مِنَ السَّمَاءِقَضَاءُ
وَإِذَا بَنَيْتَ فَخَيْرُ زَوْجٍ عِشْــرَةً *** وَإِذَا
ابْتَنَيْــــتَ فَدُونَكَ الآبَــــاء
وَإِذَا صَحِبْتَ رَأَى الوَفَاءَمُجَسَّمًا*** فِي بُرْدِكَ
الأَصْحَابُ وَالخُلَطَاءُ
وَإِذَا أَخَذْتَ
العَهْــدَ أَوْ أَعْطَيْتَـــهُ*** فَجَمِيـــــعُ عَهْدِكَ ذِمَّـةٌ وَوَفَاءُ
يَا أَيُّهَا الأُمِّيُّ
حَسْبـــــُكَ رُتْبــــَةً *** فِي العِلْمِ أَنْ دَانَتْ بِكَ العُلَمَاءُ
الذِّكْرُ آيَـــةُ رَبِّكَ الكُبْـرَى الَّتِي فِيهَا
***لِبَاغِـي المُعْجـِزَاتِ غَنـــَاءُ
ولو تحدثنا اليوم عن خلق واحد من أخلاقه صلي الله عليه وسلم
ماكفانا وقت كيف وقد كان"خُلُقُهُ القُرآن"
فلو تحدثنا عن عفوه صلي الله عليه وسلم :"
نجد أنه قد ضرب لنا
أروع الأمثلة في هذا الخلق فيتجلى عفو
الرسول صلى الله عليه وسلم حينما ذهب إلى الطائف ليدعو أهلها إلى الإسلام، ولكن أهلها
رفضوا دعوته، وسلَّطوا عليه صبيانهم وعبيدهم وسفهاءهم يؤذونه صلى الله عليه وسلم هو
ورفيقه زيد بن حارثة، ويقذفونهما بالحجارة حتى سال الدم من قدم النبي صلى الله عليه
وسلم. فنزل جبريل عليه السلام- ومعه ملك الجبال، واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم
في هدم الجبال على هؤلاء المشركين، لكن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنهم، وقال لملك
الجبال :"لا بل أرجو أن يُخْرِجُ الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، ولا يشرك
به شيئًا"(متفق عليه).
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال:جاء رجل إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! كم نعفو عن الخادم؟ فصمت! ثم أعاد عليه الكلام،
فصمت! فلما كان في الثالثة، قال: اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة"(أبوداود).
وعن ابن مسعود رضي
الله عنه قال: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه
قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه وهو يقول رب أغفر لقومي فأنهم لا يعلمون"(البخاري و مسلم).
ومن مواقف النبي صلى الله عليه وسلم في العفو ما روي عن انس
ابن مالك رضي الله عنه قال :" كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و عليه
برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه من خلفه جبذة حتى رأيت صفحة عنق رسول
الله صلى الله عليه و سلم قد أثرت به حاشية البرد من شدة جبذته فقال يا محمد أعطني
من مال الله الذي عندك فالتفت إليه النبي صلى الله عليه و سلم فضحك ثم أمر له بعطاء
"(مسلم).
والعفو خلق محبوب عند الله تعالى، وقد كان النبي صلي الله
عليه وسلم يكثر من طلب العفو من الله تعالى فقد ورد في الحديث الشريف أنه قال للسيدة
عائشة :"قولي :" اللهمَّ إنك عفوٌّ تحبُّ العفوَ ، فاعْفُ عنِّي" (الترمذي والنسائي).
وهو من الأخلاق التي أمر الله تعالى نبيّه بالتخلّق بها،
حيث أمره بقبول أعذار المسيئين كما ذكرنا :"خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ"(الأعراف/199).
أيها الناس:"ماهي حدود الصفح؟ يأتي الأمرمن الله لرسوله صلي الله عليه وسلم بالصفح الجميل :"فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ"(الحجر/85).
فالمظلوم مخير بين واحدة من ثلاث خصال: إما أن يستوفي حقه،
وهو العدل، وهو فعل الصالحين. وإما أن يأخذ أكثر من حقه، و هو صفة الأرذال و الظلمة.
و إما أن يعفو و يصفح، وهو اختيار الأنبياء و الصديقين. فإذا كان الصفح معه إحسان،
فذلك الصفح الجميل.
أيها الناس :"والسؤالُ الذي يطرح نفسَه:هل العفْوُ دائمًا
محمودٌ حتى إذا استَمرَّ شخصٌ في الإساءةِ إليك، وتمادى في إساءتِه؟ والجوابُ: لا.
فالهدفُ من العفوِ: هو الإصلاحُ، فإن لم يتحقَّقِ الإصلاحُ
مع تَكْرارِ العفوِ، وتمادى المُسيءُ في إساءتِه، إلى درجةٍ تتسبَّبُ في الأذَى البالغِ
للمُساء إليه، فهنا وجبَ الأخذُ بالحقِّ، والمطالبة بعقوبة المسيء؛ لذلك قال العلماء:
الإصلاحُ واجب،والعفوُ مندوبٌ، فإذا كان في العفو فواتُ الإصلاحِ، فمعنى ذلك أننا قدَّمْنَا
مندوبًا على واجبٍ،وهذا لا تأتي به الشريعةُ.
وقد قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :"لا ينبغِي
للمؤمنِ أن يُذلَّ نفسَه"، قالوا: وكيف يُذلُّ نفسَه؟ قال:"يتعرَّضُ من البلاءِ
لمَا لا يطيقُ"(الترمذي).
أَيْ :"إن الإنسانَ لا ينبغي له أن يترُكَ نفسَه تتعرضُ للإساءة والإهانة باستمرار، مُتَّسمًا بالعفو في موضعٍ لا يؤدِّي العفوُ لإصلاح، زاعمًا أن الشرعَ حثَّ على العفْوِ، بل ينبغي أن يكون المسلمُ عزيزًا بدينِه وتسامحِه، وإذا تحوَّلتِ العزةُ بالعفوِ إلى ذِلَّةٍ وإهانةٍ، فهنا وجَبَ عليه أن يقف وقفةً حازمة، فالله عز وجل - عادلٌ لا يقبل الإهانةَ والذلَّ، وكما حث سبحانه على العفو، فقد حث أيضًا على القِصاص والأخذِ حينما يَستدْعي الأمر ذلك.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين..
أما بعد فياجماعةالإسلام:"
وماذا بعد الأخذ بالحقوق؟ما هو الواجبُ على المسلم بعد أخذِ
الحقوق وردعِ المسيء؟يعتمد الأمر هنا على مدى الإساءةِ، وهل كان الأخذ سببًا لردع المسيء
أم لا؟
فإن تحقق الإصلاحُ، وتم ردع المسيء، فينبغي على المُسَاءِ
إليه أن يعفوَ، ويصفحَ ويسامحَ.
أما إن لم يتحقَّقِ الإصلاح، واستمر المسيء في قناعاتِه بأنه
غيرُ مُخطئٍ، واستمر في إساءتِه، فهنا وجَبَ تجنبُه؛ اتِّقاءً لشره وأذاه، وقد اعتبر
النبي صلى الله عليه وسلم من يتجنَّبه الناس اتِّقاءَ شرِّه وفُحْشِه من شِرارِ الناس
منزلةً عندَ اللهِ يومَ القيامة، فقال:"إن شرَّ الناسِ عند اللهِ منزلةً يومَ
القيامةِ: مَن تركَه الناسُ اتِّقاءَ شرِّه"(البخاري). اللهم اصلح فساد قلوبنا وانزع الغل والحسد من صدورنا يارب
العالمين..
عباد الله أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم وقوموا إلي صلاتكم يرحمكم الله وأقم الصلاة.