
الدرس الثالث | الحديث عن العالم قبل البعثة الشريفة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي أش5ف المرسلين أما بعد فيا
عباد الله :"
لازلنا نواصل الحديث حول
السيرة النبوية وقد سألنا سؤالاً في الدرس الماضي
لماذا نهتم بالحديث عن العالم قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم؟على الرغم
من أنه ضرورة من ضرورات التعمُّق في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه؛ وليس ذلك
ترفًا من القول نُسَوِّد به الصفحات، وإنما هو مقدِّمة لازمة لاكتمال فهم السيرة النبوية
فهمًا كاملاً.
وذلك لأنه كما قال الأولون: "بضدها تتبيَّن
الأشياء"
فلا
يمكن لقارئ أن يستوعب جمال السيرة النبوية وكمال صاحبها صلى الله عليه وسلم، ولا أن
يُدرك سموَّ مبادئ الإسلام وعظمة تشريعاته إدراكًا تامًّا، إلاَّ إذا رأى مدى الانحطاط
الذي وصل إليه العالم قبل الإسلام في كل مجالات الحياة؛ خاصَّة في المجالات الفكرية
والإنسانية، كالعقائد والتشريعات والأخلاق والأسرة والعلاقات السياسية بين الدول.
فقد انحدرت كل القيم الإنسانية في طول الأرض
وعرضها، ولم يبقَ على الكوكب أحد يتمسَّك بالدين والأخلاق إلا أفراد قلائل من أهل الكتاب؛
فعن عياض بن حمار المجاشعيِّ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات
يوم في خطبته فيما يرويه عن ربِّ العزَّة عز وجل: "... وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي
حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ
دِينِهِمْ ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا
بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا. وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ
فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلاَّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ "(مسلم).
لقد استحقَّ مَنْ على الأرض جميعًا مقت الله
تعالى لهم؛ وذلك بسبب الانهيار الذي حدث بوازع من الشياطين، التي ظلَّت تلعب بهم على
مدار قرون، حتى "اجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ" كما قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
شرعية تذاكر أحوال الجاهلية
وليس في الحديث عن أمر الجاهلية شيء؛ فقد كان
الصحابة رضوان الله عليهم يتذاكرون أمر الجاهلية في أحاديثهم ليعرفوا نعمة الله تعالى
عليهم بالإسلام، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن ذلك؛ بل كان الله عليه
وسلم يبتسم، فكان ذلك منه إقرارًا لهم على فعلهم؛ فعن سِمَاكِ بن حرب قال: قلتُ لجابر
بن سَمُرَةَ رضي الله عنه: أكنتَ تُجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:"نَعَمْ،
كَثِيرًا كَانَ لاَ يَقُومُ مِنْ مُصَلاَّهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ أَوِ
الْغَدَاةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامَ، وَكَانُوا
يَتَحَدَّثُونَ فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ"(مسلم).
ونحن في تناولنا لهذه الفترة لن نكتفي بالحديث
عن الجزيرة العربية وحدها، وإنما سنتحدَّث عن العالم كله قبل الإسلام؛ وذلك لأن الرسول
صلى الله عليه وسلم قد بُعِث للعالمين كافَّة رحمة ونورًا وهداية، قال تعالى:"وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ"(الأنبياء: 107)؛ فميدان عمله صلى
الله عليه وسلم هو الأرض بكاملها في الزمان بأكمله.
كما أن الدعوة والدولة الإسلامية كليهما لهما
تقاطعات مع هذه الحضارات في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فكان هناك مؤيِّدون للدعوة
من هذه الحضارات، وكان هناك معارضون، وكذلك كان هناك محايدون، ونحن لن يمكننا أن نفهم
ردود فعلهم إلا بدراسة أحوالهم ودوافعهم لاتخاذ المواقف التي سجلتها السيرة.
خصائص الحضارات قبل الإسلام
وسنجد أن كل الحضارات الموجودة قبل الإسلام امتازت
بخصائص كثيرة متشابهة؛ لعلَّ من أبرزها ثلاثًا:
أما أولها فهو الانحراف العقائدي الكامل؛ حيث
فسدت العقائد، وعبد الناس آلهة شتى من دون الله لا تملك لأنفسها -فضلاً عن أن تملك
لهم- ضرًّا ولا نفعًا؛ فعبد العرب الأصنام، وعبد الصينيون بوذا، وعبد الفُرْس النار،
وتخبَّط الرومان بين الوثنية والمسيحية المحرَّفة التي ابتدعوها؛ بينما عَبَدَ المصريون
القدماء آلهة متنوعة من الشمس إلى أوهام أخرى كحورس وبتاح وآمون.
وثانية الخصائص هي الانهيار الأخلاقي التام؛
حيث انتشرت الفواحش، ولم يعد الناس يعرفون معروفًا أو يُنكرون منكرًا؛ بل انقلبت الأحوال
حيث أصبح المنكر معروفًا يتداوله الناس جهرًا دون خشية، كما حدث مع الزنا والدعارة
مثلاً؛ فصارت الداعرات ذوات بيوت مُشْهَرَة، كما صارت نسبة أولاد الزنا للزناة أمرًا
شائعًا مشروعًا لا ينفيه أحد، ولا تُصيبه معرَّة بسببه.
وأما الخاصية الثالثة فهي التعاظم الشديد في
القوة المادية؛ فقد كانت هذه الحضارات دنيوية صِرْفة، لا يهتم ملوكها وحكامها إلا بالقوة
المادية التي تزيد في ملكهم؛ لذا فقد اهتمُّوا بزيادة قوتهم؛ وتكوين جيوش ضخمة يحاولون
بها السيطرة على العالم واستعباد البشر.
ومن هنا نعلم أن المسلمين حينما انطلقوا للجهاد، وواجهوا تلك الحضارات في صراعات عسكرية، كانوا يُواجهون في الواقع قوى عظمى تملك قدرات عسكرية ومادية هائلة؛ ولكن نجح المسلمون المجاهدون -بفضل الله تعالى- في الانتصار على هذه القوى بالفرق الواضح بينهم في الجوانب العقائدية والأخلاقية؛ على الرغم من التفاوت الهائل في القوى المادية.
الحنفاء جمع كلمة حنيف وتعني الانصراف عن الضلال
والميل والاتجاه إلى الحق قال تعالي {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم:
30]،
والدين الحنيف: المستقيم الذي لا عوج فيه، وقد سمي دين إبراهيم عليه السلام حنيفًا لاستقامته, وعلى الرغم ما أشتهر به العرب قبل الإسلام من عباداتهم وتقديسهم الهائل للأصنام وطوافهم حولها، إلا أنَّه كان منهم من سخروا من عبادتهم وأخذوا يلتمسون الصواب في الدين.
وقد حكى ابن هشام عن أربعة منهم هم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو بن نفيل، حيث أنهم اجتمعوا في عيد لهم عند صنم من أصنامهم، فقال بعضهم لبعض: تعلموا والله ما قومكم على شيء، لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر نُطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع؟!، يا قوم التمسوا لأنفسكم دينًا، فإنكم والله ما أنتم على شيء، فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام .
وقد ذُكر أن عدد هؤلاء الحنفاء أكثر من ذلك، حيث جاء في بعض المصادر أنهم: قس بن ساعدة الإيادي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأمية بن أبي الصلت وأرباب بن رئاب، وسويد بن عامر المصطلقي، وأسعد أبو كرب الحميري، ووكيع بن زهير الإيادي، وعمير بن جندب الجهني، وعدي بن زيد العبادي، وأبو قيس صرمة بن أبي أنس، وسيف بن ذي يزن، وورقة بن نوفل القرشي، وعامر بن الظرب العدواني، وعبد الطانحة بن ثعلب بن وبرة بن قضاعة، وعلاف بن شهاب التميمي، والملتمس بن أمية الكناني، وزهير بن أبي سلمى وخالد بن سنان العبسي، وعبد الله القضاعي، وعبيد بن الأبرص الأسدي، وكعب بن لؤي بن غالب.
وعلى كل حال وصل
فكر هؤلاء النفر إلى أنَّ ما عليه قومهم ليس شيئًا يذكر، وأن دين الله الحق هو من نوع
ما جاء به إبراهيم فبحثوا عنه، وانتظروا في الوقت نفسه رسولًا يبعثه الله إليهم، وقد
انتشر هذا الفكر بين عدد من العرب مع اختلاف طرقهم التي سلكوها بعد ذلك، فمنهم من لم
يهتد إلى شيء محدد حتى مات كـزيد بن عمرو بن نفيل، ومنهم من تنصر وقرأ كتب النصرانية
كورقة بن نوفل، ومنهم من بقي على فكره حتى جاء الإسلام وأسلم كـعبيد الله بن جحش .
ونكتفي بهذا القدر علي أن نلتقي ببعض الحضارات قبل الإسلام