فَظَلِلْتُ أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً
فمن أى الأبوابِ ندخُلُ مع حضراتِكُم على هذا العنوان
بدايةً لابُد ان نعلمَ ان لهذا العنوان قصة
فما هى قصةُ هذا العنوان ؟ وما هى
المحاورُ الثلاثة التى نُريدُ ان نطوفَ حولها فى هذه الخُطبة ؟
فى"[تاريخ بغداد] يُحكى ان رجُلاً من التابعين يُسمى السَّريَّ
السَّقَطيَّ رضي الله عنه قال : حمدتُ اللهَ مرةً ، فأنا أستغفرُ اللهَ من ذلك
الحمدِ مُنذُ ثلاثين سنة! قيل: وكيف ذاك؟!
هل هُناك أحدٌ يستغفرُ اللهَ من الحمد فالحمدُ لله تعالى كُلِ حالٍ هو افضلُ شيئٍ
فى هذا الوجود ،،
ولذلك سألَ نبىُ الله موسىَ ربهُ وقال
يارب كيف احمدُك ، وحمدى لك نعمةٌ تستحقُ ان احمدكَ عليها
فقال لهُ اللهُ ياموسى إنك بذلك
قد حمدتنى ،،
يعنى مادُمتَ قد علمت ان حمدك لى على
رأسى النِعِمِ التى يجبُ عليك ان تحمدنى عليها فقد حمدتنى ،،
ولذلك يقولُ القائل :
لك الحمدُ مولانا على كُلِ نعمة
ومن جُملةِ النعماءِ قولى لكَ الحمدُ
لكن صاحبَ هذه القصة واسمُهُ السَّريَّ السَّقَطيَّ
قال : حمدتُ اللهَ مرةً ، فظللتُ
أستغفرُ اللهَ من ذلك الحمدِ مُنذُ ثلاثين سنة!
قيل: وكيف ذاك؟! هل هُناك أحدٌ يستغفرُ اللهَ من الحمد
قال نعم : كان لي دُكانٌ وكان فيه متاعٌ اى بضاعة ، فوقع حريقٌ في السوق
،، فلما قيل ليَ وأُخبرتُ انهُ قد حدثَ حريقٌ فى السوق فخرجت فزعاً مُتخوفاً على
دُكاني، فلقيتُ رجُلًا فسألتُهُ عن حانوتي
اى دُكانى فقال لىَ أبشر فإن دُكانكَ قد سلِمَ، فقُلتُ: الحمدُ لله، وظللتُ استغفرُ الله ثلاثين سنة من هذا
الخاطر
ثُم إني فكرتُ فيها فرأيتُها خطيئةً منى ".
وفي حيث أردتُ لنفسي خيرًا مما
للمُسلمين".
هذه القصةُ الرفيعةُ هى جوهرُ الأخلاق الإسلامية، وهو اتساعُ القلبِ
للمُسلمين جميعًا، ورفض التمييز والتحيز للنفس
لكنهُ لِمَا أحسّ في قلبه من تفضيلِ النفس على عموم المسلمين. اعدَ هذه
خطيئة أخذَ يسغفرُ الله منها ثلاثين سنة
الشاهدُ هُنا من هذه القصة أنهُ إذا كان أهلُ الله يخافون من مُجرّد
خاطر القلب بتفضيل النفس على سائرِ الناس
فماذا بمن يمدُّ يدهُ إلى المال العام
الذي هو ملكٌ لأمَّةٍ بأسِرها؟!
إذا الدرسُ الأول حُرمةُ المالِ العام
لماذا؟
لأنهُ ليس مالَ فردٍ حتى يتصرّفَ فيه
الإنسانُ كما يشاء، بل هو حقّ مُشترك، وكُلُ اعتداءٍ عليه هو اعتداءٌ على حقوقْ
الملايين.
إن حُرمةَ التعدى على المال العام اشدُ
عِنْدَ الله من حُرمةِ التعدى على المال الخاص
وذلك لأن المُتعدى على المال الخاص
إذًا أرادَ التوبةَ فإنهُ يعرفُ من تعدىَ على مالهِ
ويستطيعُ ان يرُدَ لهُ مالهُ
لكن المُتعدى على المال العام ،،
فالمالُ هُنا هو مالُ الشعب ،، مالُ الأُمة فإذا تاب واراد ان يرُدَ المظالم إلى
اهلها فكيفَ لهُ ان يرُدَ المال للشعبِ وللأُمةِ كُلِهِا
أما إذًا اتقىَ الإنسانُ ربهُ
فى المال العام
وعرفَ أن حرمةَ المال العام اشدُ من
حُرمةِ المال الخاص ، ومن ثمَ إتقىَ الله تعالى فيه فيكونُ قد حمىَ نفسهُ واهلهُ
واولادهُ ،،
فاياك ان يُغركَ المالُ الحرام والإنسانُ الذكى
هو من يصنعُ من المالِ جسراًً بينهُ
وبين من يُحبُ وأولهُم أهلُهُ بالحلالِ لا
بالحرام
.،،
بينما غيرُهُ يصنعُ من المالِ حاجزاً
بينهُ وبين ربهِ ،، وبينهُ وبين من
يُحبُ وأولهم اهلُهُ .وذلك بالحرام
وصورُ المال الحرام كثيرةُ لا تكادُ ان
تُحصى
الرشوه، ومنها الراشي والمرتشي والوسيط
فيها.
الربا وما يكسبُهُ المرءُ من هذا
المال، فمن اكتسب مالاً من الربا فقد حارب اللهَ ورسولهَ
إهدارُ المال العام لأنهُ اشدُ حُرمةً
من المال الخاص
واكتسابُ المالِ بالسرقةِ أو بالسطو
وغير ذلك
خُلاصةُ القولِ إذًا اردنا مُجتمعاً
نظيفاً وبركةً فى حياتِنا واولادنا فعلينا ان نُطهرَ اموالنا وان نقضى على إهدار
المال العام ،، وعلى اكلِ المالِ بالباطل
وبالحرام
لابُد ان نقضى علىَ النفعية ،، وعلى
الوصولية ،، وعلى المحسوبية ،، وعلى الغدر ،، وعلى الخيانيةِ ،،
وصدقَ من قال ::
- وَلَكِنَّني أَسعى لِأَنفَعَ صاحِبي :::
- وَعارٌ عَلى الشَبعانِ إِن جاعَ
صاحِبُه
::
وان تكونَ علاقتُنا بغيرِنا للهِ وفى
الله وبالله
ولقد قال رسولُ الله صلى اللهُ عليه
وسلم (( من إستعملناهُ فى شيئٍ فكتمنا مخيطاً فهو غالٌ ))
اى خائنٌ
وقال رسولُ الله والذى نفسى بيدهِ ((
لا اعرفن احدكُم يومَ القيامة يأتى وفوقَ رقبتهِ شاه ،، ويأتى وفوق رقبتهِ بقرة ،،
ويأتى وفو ق رقبتهِ جمل
))
كُلُ من خانَ الناس فى شيئٍ يأتى بهِ
فوقَ رقبتهِ
وإن لم تُصدقوا هذا فاسمعوا قولَ الله
تعالى
::
(( وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ))
إسمعوا هذا الكلامَ جيداً لأن الكثير
من الناس يهتم بجمع المال دون النظر إلى مصدره أمن الحلالِ هو أم الحرام ؟ !!
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي
الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ، أَمِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنْ الْحَرَامِ” رواهُ (
البخاري
)
إذاً لا بُد ان نعلمَ خطورة الأقتراب
من المال العام وحُرمتهِ
إننى أُركزُ على هذا الشيئ لأن كثيراً
من الناسِ كانت نُقطةُ ضعفهِم فى (( المال )) وما أدراك ماالمالُ
فكما قال القائل ::
فصاحةُ حسّانٍ وخط ابْنُ مُقلةٍ ... وحكمةُ لُقمانٍ وزُهدُ ابْنُ أدهمِ
إذا اجتمعت في المرءِ والمرءُ مُفلسٌ
... ونودي عليه لا يُباعُ بدرهمٍ
وقال الشافعىُ
يمشي الفقيرُ وكل شيء ضده
***** والناس تغلق دونه أبوابها
وتراه مبغوضاً وليس بمذنب
***** ويرى العداوة لا يرى أسبابها
حتى الكلاب إذا رأت ذا ثروة
***** خضعت لديه وحركت أذنابها
وإذا رأت يوماً فقيراً عابراً
***** نبحت عليه وكشرت أنيابها
فمن الناس من يقفُ أمام المال فيسيلُ لَهُ
لُعابُهُ وينسى معهُ قيمتهُ وأخلاقهُ للأسف الشديد
وايضاً من أرادَ الصلاحَ لأولادهِ بعد مماتهِ فعليه بتقوى الله
إسمعوا هذا الكلام جيداً ، لأن كثيراً من الناس يسعى ويتعبُ ليؤمنَ مُستقبلَ أولاده ظناً منهُ أن وجودَ
المال في أيديهم بعد موتهِ أمانٌ لهم، وغفلَ عن الأمانِ العظيم الذي ذكرهُ اللهُ
في كتابه
:
(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا
مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ
وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا
) .
ابو جعفر المنصور الخليفة حينما بويع
بالخلافة ذهب الناسُ إليه يُهنئونهُ بإمارةِ المؤمنين فدخل عليه رجُلُ يُسمى
مُقاتلَ إبن سُليمان ، وكان مُقاتلٌ هذا عالماً من العُلماء ولايخفى فى الله لومةَ
لائم فلما دخل قصرَ الخليفة ورأهُ ابو جعفر المنصور قال جاءه من سيُعكرُ الأن
صفونا لأنهُ سينصحُهُ امام الناس فقال فى نفسهِ ابدءهُ كما ان يبدأنى هو ،، حتى
إذا زادَ فى كلامهِ اكونُ انا الذى طلبتُ منهُ
فلما دخل مقاتل بن سليمان على الخليفة
: قال لهُ ابو جعفر المنصور : عِظني يا
مقاتل
فقال : أعظُك بما رأيت أم بما سمعت ؟
قال : بل بما رأيت
قال يا أمير المؤمنين :
إن الخليفة الأموي : عمر بن عبد العزيز
أنجب أحد عشر ولدا ً وترك ثمانية عشر دينارا ً ، كُفّنَ بخمسة دنانير ، واشتُريَ
له قبرٌ بأربعة دنانير وَوزّع الباقي على أبنائه
والخليفةُ الأموي : هشامُ بن عبد الملك
أنجب أحد عشر ولدا ً ، وكان نصيب كلّ ولد ٍ من التركة الف الف دينار.( اي مليون )
وكان نصيبُ كُلِ واحدةٍ من نسائهِ
الأربع ثمانين الف دينار هذا بخلافِ الضياعِ والقصور
والله... يا أمير المؤمنين : لقد رأيتُ
في يوم ٍ واحد ٍ أحدَ أبناء عُمر بن عبد العزيز يتصدقُ بمائةِ فرسٍ للجهاد في سبيل
الله ، ورأيتُ واحداً من أبناء هشام إبن
عبدالملك يتسول في الأسواق.
ولقد
سأل الناسُ عمرَ بن عبدالعزيز وهو على فراش الموت : وقالوا ماذا تركت
لأبنائك يا عُمرُ ؟
قال: تركت لهم تقوى الله، فإن كانوا
صالحين فاللهُ تعالى يتولى الصالحين ، وإن كانوا غير ذلك فلو تركتُ لهُم مالَ
قارون ما أغنى عنهُم شيئاً ،،
(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا
مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ
وَلْيَقُولُوا
))
ولذلك قال الحكيمُ أيضاً : أربعةُ
لابقاء لها : المال الحرام ومودةُ
الأشرار والبيتُ الذى ليس فيه تقدير "أى لا إحترام فيه بين الزوجين "والكسبُ
الذى ليس معه تدبير"يعنى مُخرجات اكثر
من المُدخلات "
خُلاصُةُ القول :: المال الحرام من
الأشياء التى لا تبقى وتنتهى وستزولُ لا
محالة إن لم ينتهى على يديكّ سينتهى على يدى اولادِك فاتقى الله تعالى ولا تأكُل
حراماً
والدرسُ الثانى الذى نأخُذُهُ من هذه
الخُطبة
ان الإنسان لابُد ان يُحاسِبَ نفسهُ على
خاطرهِ لأن اللهُ يُحاسبُ العبدَ على نيتهِ
قال احدُ الصالحين اذنبتُ ذنباً عظيماً
فحُرمتُ بسببهِ من قيامِ الليل اربعة اشهُر
قالوا لهُ وما هو هذا الذنب ؟
قال كُنتُ أُصلى وراء شيخٍ فرأيتُهُ يبكى فى صلاتهِ فدخلَ فى نفسى شيئٌ
منهُ وقُلتُ فى نفسى هذا رجُلٌ مُرائى دون
ان اتكلمَ بها إنما كان ذلك فى نفسى ، فحُرمتُ بسببِ هذا الذنب اربعة اشهُر ، وما
عُدتُ مرةً أُخرى لقيامِ الليل إلا بعد ان ذهبتُ إليه واستسمحتُهُ من هذا الذنب
وكان ذلك فى خاطرى ،،
إذا فإن الله يُحاسِبُ العبدَ على
النيات
فالنيةُ هى الأساسُ فى ديننِا ويُحاسبُ
اللهُ الإنسانَ عليها
وإليك صورةً لذلك ::
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((
من تزوجَ إمرأةً على صداق وهو ينوى ان يأكُلَ صداقها حُشر يوم القيامة زانى ))
إذاً حتى ولو لم يأكُل صداقها حُشِرَ
يوم القيامةِ زانى
فما بالُنا بمن نوى واكلَ صداقها
بالفعل ،،
إذا نحنُ نُحاسبُ على رضا القلب
وبُغضهِ ونذكرُ فطهروا انفِسكُم واصلحوا نيتكُم لله
واسمح معى إلى هذا الحديث (( من حضر
معصيةً وهو كارهٌ لها كان كمن غابَ عنها ولم يحضرها ،، ومن غابَ
عن معصيةٍ وقد رضىَ بها واحبها كان كمن حضرها وهو مُشتركٌ فيها ))
ياسبحان الله الفقرةٌ من الحديثِ
مُطمئنة ،، والفقرةٌ الثانيةُ مُفزعة ،،
ولذلك كان الصالحون من التابعين دائماً
دائماً يستعملون التقيةَ حتى لا يقعوا فى المحظور لأنهُ يعلمون ان الله يُحاسبُ
على رضا القلبِ وبُغضهِ حتى
ولو لم تُترجم النيةُ إلى عملٍ ،،
فها هو الحسنُ البصرىُ لما سُئِلَ :؛
ياتقى الدين اعلىٌ على حقٍ ام مُعاوية ،، فقال الحسنُ البصرىُ شيئ سلمَ اللهُ
ايدينا منهُ ونسألُ الله ان يُسلمَ السنتنا ))
وقال رسولُ اللهُ من إدان ديناً وهو
ينوى ادائهُ ادى اللهُ عنهُ ، وهكذا من إدان ديناً وهو ينوى إتلافهُ اتلفهُ اللهُ
تعالى ،،
والدرسُ الثالثُ الذى نأخُذُهُ من هذه
الخُطبة الإيثار وحُبُ الخير للناس وان لا يكونَ الإنسانُ إنساناً انانياً
إنما يتعاملُ الإنسانُ مع الناس بما
يُحبُ ان يُعاملوه به
وقال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم
(( لايؤمنُ احدُكُم حتى يُحبَ لأخيهِ ما يُحبُ لنفسهِ
)) ومن هذا الحديثِ نأخُذُ ايضاً
ان رسولَ الله نفى الإيمانَ عن رجُلٍ
احبَ نفسهُ اكثر من اخيهِ وصدقَ القائلُ حيثُ قال :::
ولكننى أسعى لأنفعَ صاحبى :؛؛
وعارٌ على الشبعانِ إن جاعَ صاحبُهُ ::
أينَ الحبُ فى الله الذى أصبح نباتاً
غريباً فى مجتمعنا (القوىُ يأكلُ الضعيفَ والغنىُ
يأكُلُ الفقيرَُ والكبيرُ يأكُلُ الصغير )
ايث الإيثار الذى قال عنهُ مولانا ((
وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ ))
إخوتاه اكتفى بهذا القدرِ فى هذه
الخُطبة وارجوا من الله أن اكونَ قد وفقتُ
معكُم فى تخفيفِ تحضيرِ الخُطبة عليكُم ، وأن اكون قد وضعتُ بين ايديكُم المداخل
والمخارج التى تخرجون من خلالها وتدخُلون اثنا، الخُطبة ،، ليكونَ بها ما يُسمى بالرياضياتِ
، وفن إثارة الجمهور لنصرفَ عن الناس
المللَ أثناء الخُطبة لأن التنوعَ يُعطى عدم الملل ،، ولا تنسونا من صالحِ
دُعائِكُم