المغالاة والفجور في الخصومة
وراء كل أبي لهب أم جميل بنت حرب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:فياعباد الله
نهي الإسلام عن الفجر في الخصومة وجعلها علامة من علامات النفاق,
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر"(البخاري ومسلم وغيرهما).
قال النووي في شرح مسلم:"وإن خاصم فجر" أي مال عن الحق وقال الباطل والكذب، قال أهل اللغة: وأصل الفجور الميل عن الحق.
وعلى هذا فالفجور في الخصام هو الكذب
فيه والميل عن الحق.
وفي ظل الخلافات السياسية الدائرة
حاليا, تتجلي حالة الانفلات الأخلاقي والتي تصل في بعض الأحيان إلي الاشتباك
بالأيدي بل تعدي إلي أكثر من ذلك وهو قتل النفس, وبث الشائعات ومحاولة النيل من
الخصوم بشتي الطرق والوسائل.
عباد الله :" إن الفجور هو البعد عن الحق والاحتيال في رده, وإذا خاصم أحدا فعل كل السبل غير المشروعة, واحتال فيها حتي يأخذ الحق من خصمه, ومن صور فجر الخصومة اختلاق الاتهامات, وإطلاق الشائعات, والتنابز بالألقاب, ونهش الأعراض, والتمادي في الخصومات, فالعاجز عن إيراد البراهين, والضعيف عن مقارعة الحجة بالحجة, يلجأ إلي محاولات رخيصة بتلمس العثرات واختلاق موقف, كيدا للمخالف, وهذا المسلك محرم مجرم, قال الله ـ عز وجل:"فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ"(الحج/30).
و في ظل الانفلات الأخلاقي تتناثر الاتهامات من مرضي القلوب, ومهزوزي العقيدة, فيعتدون بأقوال وأفعال علي الأبرياء من كذب وسب وإيذاء وحسد وسوء ظن وبغي ونميمة وخوض في الأعراض, وتتعاظم الحرمات من بعض مدعي التدين والالتزام, فيتهمون رموزا علمية وفكرية ودعوية وسياسية, بالتكفير والتخوين, والعمالة, ويجب ان نقول للجميع لا يحملنكم فجر الخصومة علي إيذاء مسلمين أو البعد عن مقاصد الدين" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"
وقول الرسول صلي الله عليه وسلم :"إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام"
:"كل المسلم علي المسلم حرام: ماله ودمه
وعرضه".
عباد الله:" إن الأصل في الناس الاختلاف, فالناس مختلفون في أشكالهم وألوانهم, وأطوالهم وأجسامهم وعقولهم وأفهامهم وقوتهم وضعفهم, وفقرهم فهذه هي سنة الله في خلقه, وصدق سبحانه حيث قال مؤكدا علي هذا المعني بقوله:"ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين"
وراء كل أبي لهب أم جميل بنت حرب
عَبْدُ العِزَّى بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ القُرَشِيُّ المعروف بكنية أبو لهب هو عم النبي محمد، وكنيته أبو عتبة مات سنة 624م.
وهو الأخ غير الشقيق لعبد الله بن عبد المطلب والد النبي محمد. عرف عبد العزى بكنية أبو عتبة نسبة لابنه الأكبر عتبة بن عبد العزى بن عبد المطلب، ولكن الاسم المشهور له هو أبو لهب، لقبه إياه أبوه عبد المطلب لوسامته وإشراق وجهه.
ذكره في القرآن
ورد ذكره في القرآن في سورة المسد:"تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ "(المسد:1–5).
عداءه وفجره في الخلاف لنبي الإسلام
عباد الله :" كان أبو لهب وزوجته يسكنان في بيت مجاور للنبي محمد، وقد ناصباه هو وزوجته، ولم يراعيا حقًّا للقرابة والجوار، حيث لم يكتفِ بتخاذله عن نُصْرَةِ ابن أخيه وحمايته، بل عاداه وحاربه واجتهد في صَدِّ الناس عنه.
فكانت زوجته تحمل الشَّوك في الليل وتضعه في طريق النبي محمد الذي يسلك منه إلى بيته ليعقر قدميه.
وكانت أيضًا امرأة سليطة تبسط فيه لسانها، وتطيل عليه الافتراء والدس، وتُؤَجِّج نار الفتنة، ومنه ما رواه البخاري ومسلم عن جندب بن سليمان أنه قال:"اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يَقُمْ لَيْلَة أَو ليلتين، فأَتت امرأَةٌ - وهي أم جميل - فقالت: يا مُحَمَّدٌ ما أَرى شيطانك إلَّا قد تركك؛ فأَنزل الله عز وجل:"وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى"(الضحى/1–3).
أخرج ابن جرير والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن ابن عباس في قوله:" وامرأته حمالة الحطب " قال: كانت تحمل الشوك فتطرحه على طريق النبي ليعقره وأصحابه.
وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الغيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد:"وامرأته حمالة الحطب"قال: كانت تمشي بالنميمة"في جيدها حبل من مسد"من نار.
خرجت أم جميل ذات يوم غاضبة حتى وصلت إلى الرسول وكان جالساً مع أبي بكر عند الكعبة، وكان في يدها حجر أرادت أن تضربه به فذهب بصرها فلم تره وقالت لأبي بكر: أين صاحبك قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربته بهذا الحجر، ثم انصرفت فقال أبو بكر: يا رسول الله أما رأتك؟ قال: لا، لقد أخذ الله بصرها عني.
ضغطت على ولديها عتبة وعتيبة ليطلقا بنتي الرسول.
يذكر الزمخشري في تفسيره الكشاف بأن أم جميل قالت لولديها : ”رأسي برأسيكما حرام إن لم تطلقا بنتي محمد”، فلم يكن لهما إلا الرضوخ لها، فقاما بتطليق بنتي الرسول ام كلثوم ورقية..
عداء أبولهب للرسول صلي الله عليه وسلم
بالرغم من ذلك فإن أبا لهب هو الذي أعتق جاريته ثويبة لَمَّا بشَّرته بميلاد ابن أخيه محمد ﷺ فرحًا به، ومع هذا كان بعد ذلك من أشدِّ الناس عداوة له، وقد بلغ من أمر أبي لهب أنه كان يتبع النبي في الأسواق، والمجامع، ومواسم الحج ويكذِّبه.
كان أبو لهب رجلًا موسرًا جمع مالًا طائلًا، وكان يُعَدُّ من الطبقة الوجيهة المعروفة من قريش، وكانت له طبيعة غير طبيعة إخوته، فإخوته يطلبون السيادة والشرف والعزة بالخلق العربي الصميم، وهو يطلب المال والدنيا، وفيه أثرة، وحب الذات، ومن يكون كذلك يميل دائمًا إلى الابتعاد عما يثير المتاعب.
ومما يدلُّ على هذا العداء ويقويِّه أن النبي صلى الله عليه وسلم زوَّج بنتين من بناته - وهما أم كلثوم ورُقَيَّة – إلى ولدين من أولاد أبي لهب، وكان ذلك قبل البعثة النبوية، فكانت السيدة رُقَيَّة عند عُتْبَة؛ والسيدة أم كلثوم عند عُتَيْبَة، فلما جاءه الوَحيُ قال أبو لهب وزوجته: اشغلوا محمدًا بنفسه، وأمَرا ابناهما بطلاق بنتَي النبي ﷺ.
وبسبب هذه العداوة أنزل الله في أبي لهب وزوجته سورة المسد، يخبره بعاقبة أبي لهب وزوجته في الدنيا والآخرة، قال تعالى:"تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ " مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ٤ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ "(المسد:1–5).
كان أول من جهر برفضه الإسلام لما جهر النبي محمد بدعوته، ولم يكتف بالمعارضة الصريحة بل عضدها بالعمل والكيد، فقد مارس شتى أنواع أذى النبي وصد الناس عنه. بل إن أبا لهب لم يدخل مع قومه شعب بني هاشم لما حاصرتهم قريش فيه، ولما لم يستطع الخروج مع قريش لقتال النبي يوم بدر استأجر بدلاً منه العاص بن هشام بن المغيرة بأربعة آلاف درهم.
أبناؤه وبناته
كان له ثلاثة أبناء وثلاث بنات:عتبة بن أبي لهب.معتب بن أبي لهب.عتيبة بن أبي لهب.درة بنت أبي لهب.عزة بنت أبي لهب.خالدة بنت أبي لهب.
وقد أسلم الأولاد يوم فتح مكة، وشهدا حنيناً والطائف، وأما"عُتيبة" فلم يسلم، وكانت أم كلثوم بنت رسول الله عنده، وأختها رُقية عند أخيه عُتبة، فلما نزلت السورة قال أبو لهب لهما: رأسي ورأسكما حرام إِن لم تطلقا ابنتي محمد، فطلقاهما وتزوجهما فيما بعد عثمان بن عفان (ولم يجمع بينهما). ولما أراد "عُتيبة" - بالتصغير - الخروج إلى الشام مع أبيه قال: لآتينَّ محمدا وأوذينَّه فأتاه فقال يا محمد: إِني كافر بالنجم إِذا هوى، وبالذي دنا فتدلى، ثم بصق أمام النبي وطلَّق ابنته أم كلثوم فغضب ودعا عليه فقال: "اللهم سلط عليه كلباً من كلابك " فافترسه الأسد.
معجزة نبوية في مقتل عتيبة بن أبي لهب:
عتيبة مات كافراً، وكان في موته معجزة وعبرة كما حدث مع أبيه، فقد روى أبو نعيم في الدلائل عن عثمان بن عروة بن الزبير رضي الله عنه عن رجال من أهل بيته قالوا: "كانت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند عتيبة بن أبي لهب فطلقها، فلما أراد الخروج إلى الشام قال: لآتين محمداً فأوذينه في ربه، قال: فأتى فقال: يا محمد هو يكفر بالذي دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، ثم تفل في وجهه "إلا أنَّ البزاق لَم يقع عليه"، ثم ردَّ عليه ابنته "طلقها"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك، قال: وأبو طالب حاضر فوجم عنها وقال: ما أغناك عن دعوة ابن أخي فرجع, فأخبره بذلك، وخرجوا إلى الشام فنزلوا منزلا فأشرف عليهم الراهب من الدير, فقال لهم: هذه أرض مُسْبِعة "فيها أسود"، فقال أبو لهب: يا معشر قريش أعينونا هذه الليلة فإني أخاف عليه دعوة محمد، فجمعوا أحمالهم ففرشوا لعتيبة عليها وناموا حوله، فجاء الأسد فجعل يتشمم وجوههم ثم ثنى ذنبه فوثب فضربه بيديه ضربة فأخذه فخدشه، فقال: قتلني، ومات مكانه".
وفي رواية البيهقي في الدلائل: "فبلغ ذلك أبا لهب فقال: أَلَمْ أَقَلْ لَكُم إِنِّي أخاف عليه دَعْوَة مُحَمَّد". قال القاسمي في محاسن التأويل: "ومنه يُعلَم أن الأسد يُطلقَ عليه كلب، ولما أُضيف إلى الله، كأنه أعظم أفراده".
إن أحداث التاريخ منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فيها الكثير من المواقف والأحداث التي تبين العاقبة السيئة لمن استهزأ بنبينا صلى الله عليه وسلم، كما حدث مع أبي لهب وابنه عتيبة، وطريقة وقصة موتهما، وما فيها من معجزة نبوية، وعبرة للمكذبين المستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر ماضٍ إلى قيام الساعة، قال ابن تيمية: "والقصة في إهلاك الله واحداً واحداً من هؤلاء المستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم معروفة قد ذكرها أهل السير والتفسير"، وذلك مصداقاً لقول الله تعالى:"إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ"(الحجر:95).
قال السعدي: "وهذا وعْدٌ من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أنْ لا يضره المستهزئون، وأنْ يكفيه الله إياهم بما شاء من أنواع العقوبة".
هلاكه
توفي أبو لهب بعد وقعة بدر بسبع ليالٍ بمرضٍ معدٍ كالطاعون يسمى "العدسة" وبقي ثلاثة أيام لم يدفن حتى أنتن، وقد كانت العربُ آنذاكَ تخشى هذا المرض، وحيث أنَّه مرضٌ معدٍ، رفضَ ابنا أبي لهبٍ تغسيلَ ودفنَ أبيهم، وبقي في حجرته حتى أنتن وفاحت رائحته، ثمَّ بعد ذلك جاء رجلٌ وعابَ على أبنائه صنيعهم هذا، وأخبرهم أنَّه سيعاونهم في تغسيله ودفنه، وبالفعلِ غسَّلوه من بعيدِ قذفًا بالماء، ثمَّ حملوهُ وألقوه في أعلى مكةَ عند جدارٍ، وقذفوا عليه الحجارةَ. ويرى المسلمون بأن سورة المسد هي معجزة بحد ذاتها، إذ أنها توعدت أبا لهب وزوجته بعذاب نار جهنم خالدين فيها أبداً.