recent
أخبار عاجلة

وداع رمضان

 وداع رمضان

الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له أجزل الخير للطائعين الصائمين المصلين المتصدقين الذاكرين فقال في حديثه القدسي :"والصلاة والسلام عهلي أشرف المرسلين وبعد

ها هو شهر الخير قد قُوِضت خيامه، وتصرَّمت أيامه، فحق لنا أن نحزن على فراقه، وأن نذرف الدموع عند وداعه.

 

وكيف لا نحزن على فراقه ونحن لا ندري هل ندرك غيره أم لا؟ كيف لا تجري دموعنا على رحيله؟ ونحن لا ندري هل رفع لنا فيه عمل صالح أم لا؟ وهل ازددنا فيه قرباً من ربنا أم لا؟ كيف لا نحزن عليه وهو شهر الرحمات، وتكفير السيئات، وإقالة العثرات؟!

 

يمضى رمضان بعد أن أحسن فيه أقوام وأساء آخرون، يمضى وهو شاهد لنا أو علينا، شاهد للمشمر بصيامه وقيامه وبره وإحسانه، وشاهد على المقصر بغفلته وإعراضه ونسيانه.

 

رمضان سوق قام ثم انفض، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر، فلله كم سجد فيه من ساجد؟ وكم ذكر فيه من ذاكر؟ وكم شكر فيه من شاكر؟ وكم خشع فيه من خاشع؟ وكم فرّط فيه من مفرِّط؟ وكم عصى فيه من عاص؟

 

ارتحل شهر الصوم، فما أسعد نفوس الفائزين، وما ألذ عيش المقبولين، وما أذل نفوس العصاة المذنبين، وما أقبح حال المسيئين المفرطين.

 

لا بد من وقفة محاسبة جادة، ننظر فيها ماذا قدمنا في شهرنا من عمل؟ وما هي الفوائد التي استفدناها منه؟ وما هي الأمور التي قصرنا فيها؟ فمن كان محسناً، فليحمد الله، وليزدد إحساناً، وليسأل الله الثبات والقبول والغفران، ومن كان مقصراً فليتب إلى مولاه قبل حلول الأجل.

 

تذكر أيها الصائم وأنت تودع شهرك سرعة مرور الأيام، وانقضاء الأعوام؛ فإن في مرورها وسرعتها عبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين قال عز وجل: {يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} (النور:44)، بالأمس القريب كنا نتلقى التهاني بقدومه، ونسأل الله بلوغه، واليوم نودعه بكل أسىً، ونتلقى التعازي برحيله، فما أسرع مرور الليالي والأيام، وكر الشهور والأعوام.

 

والعمر فرصة لا تمنح للإنسان إلا مرة واحدة، فإذا ما ذهبت هذه الفرصة وولت، فهيهات أن تعود مرة أخرى، فاغتنم أيام عمرك قبل فوات الأوان، ما دمت في زمن الإمكان، قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل أنت فيهما"، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما ندمتُ على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي".

 

وتذكر دائماً أن العبرة بالخواتيم، فاجعل ختام شهرك الاستغفار والتوبة، فإن الاستغفار ختام الأعمال الصالحة، وقد قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في آخر عمره: {إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً} (النصر:1-3)، وأمر سبحانه الحجيج بعد قضاء مناسكهم وانتهاء أعمال حجهم بالاستغفار، فقال جل وعلا: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} (البقرة:199).

 

كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يجتهدون في إتمام العمل وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله، ويخافون من رده، كما وصف الله عز وجل عباده المؤمنين بأنهم: {يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} (المؤمنون:60)، فهل شغلك -أخي الصائم- هذا الهاجس، وأنت تودع شهرك، قال علي رضي الله عنه: "كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل، ألم تسمعوا إلى قول الحق عز وجل: {إنما يتقبل الله من المتقين} (المائدة:27)، وكان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان: "يا ليت شعري! من هذا المقبول منَّا فنهنيه، ومن هذا المحروم فنعزيه، أيها المقبول هنيئاً لك، أيها المحروم جبر الله مصيبتك".

 

اللهم لك الحمد أن بلغتنا شهر رمضان، اللهم تقبل منا الصيام والقيام، وأحسن لنا الختام، اللهم اجبر كسرنا على فراق شهرنا، وأعده علينا أعواماً عديدة وأزمنة مديدة، واجعله شاهداً لنا لا علينا، اللهم اجعلنا فيه من عتقائك من النار، واجعلنا فيه من المقبولين الفائزين

 

سلام من الرحمن كل أوان *** على خير شهر قد مضى وزمانِ

سلام على شهر الصيام فإنه *** أمان من الرحمن كل أمان

لئن فنيت أيامك الغر بغتة *** فما الحزن من قلبي عليك بفان

 

عن الهيثم بن جماذ قال: دخلت على يزيد الرقاشي وهو يبكي في يوم حار وقد عطش نفسه أربعين سنة فقال لي: أدخل تعالى نبكي على الماء البارد في اليوم الحار.

عن مالك قال: بلغني أن حسين بن رستم الأيلي دخل على قوم وهو صائم فقالوا له: أفطر فقال: إني وعدت الله وعدا، وأنا أكره أن أُخلف الله ما وعدته.

قال سعيد عن قتادة رحمهم الله كان يقال : من لم يغفر له في رمضان فمتى يغفر له ؟ ومن رد في ليلة القدر متى يقبل ؟ متى يصلح من لا يصلح في رمضان , ومتى يصلح من كان فيه من داء الجهالة والغفلة مرضان .

قال الشاعر :

 

فيا شهر الصيام فدتك نفسي *** تمهل بالرحيل والانتقال

فما أدرى إذا ما العام ولى *** وعدت بقابل في خير حال

أتلقاني مع الأحياء حيا *** أم انك تلقني في اللحد بالي

فذلك حال الدنا دواما *** فراق بعد جمع وارتحال

 

وقال آخر :

 

رمضانُ قد رحلت فما عسايّ أقولُ * * * والدمعُ من ألم الفراق يسيلُ ؟

عامٌ مضى .. غفت القلوبُ وأجدبت * * * هممٌ وأنكرت الثمارَ حقولُ

واستنفرتنا للمباهج أنفسٌ * * * مالت مع الأهواء حيث تميل

فلك التحية .. ما أقمت بأرضنا * * * ولك التحية .. ما احتواك رحيلُ

 

فيا شهر رمضان غير مودع ودعناك، وغير مقلي فارقناك، كان نهارك صدقة وصياماً، وليلك قراءة وقياماً، فعليك منا تحية وسلاماً، يا شهر الصيام أتراك تعود بعدها علينا أو تدركنا المنون فلا تؤول إلينا، مصابيحنا فيك مشهورة، ومساجدنا فيك معمورة، فالآن تنطفئ المصابيح، وتنقطع التراويح.

والآن تهجر المساجد ويجفوها كل راكع وساجد , وتطوى المصاحف ويأمن الخائف , فلا وجل ولا خشوع ولا بكاء ولا دموع , فيا شهر الصيام أسرع إلينا ثانية فقلوبنا إليك تحن ومن ألم فراقك تبكي وتئن .

 

 

 

 

 

google-playkhamsatmostaqltradent