recent
أخبار عاجلة

خطبة الجمعة أسباب التكفيروأحكامه وضوابطه وقواعده لفضلة الشيخ عبدالناصربليح


أسباب التكفير وأحكامه وضوابطه وقواعده

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين أمابعدفياعباد الله 

فمن أسباب التكفير

يذكر علماء المسلمين أن من أهم أسباب تكفير المسلم:

• الشرك في عبادة الله تعالى، قال الله تعالى:"إِنَّ الله ‌لَا ‌يَغْفِرُ ‌أَنْ ‌يُشْرَكَ ‌بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ"(النساء:48).، وقال تعالى:"إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بالله فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ‌وَمَا ‌لِلظَّالِمِينَ مِنْ ‌أَنْصَارٍ"(المائدة:72)،   

• جعل الشخص بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم. ودليل ذلك قوله تعالى: "وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ ‌هَؤُلَاءِ ‌شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ الله"(يونس:18).

• الاستهزاء بشيء من دين الرسول ﷺ أو ثوابه أو عقابه والدليل قوله تعالى: ﴿قُلْ أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ  ‌لَا ‌تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ"( التوبة:٦٥).

• مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى:"وَمَنْ ‌يَتَوَلَّهُمْ ‌مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ الله لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ"(المائدة:٥١).

• اعتقاد أن هدي غير النبي ﷺ أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذين يفضلون حكم الطواغيت على حكمه.

أحكام التكفير 

أولًا: التكفير حكم شرعي، وحق خالص لله تعالى، فلا تملكه هيئات، ولا جماعات، ولا أفراد، فهذا التكفير حق لله، هو الذي يكفر سبحانه، ويبين من الذي يكفر ومن الذي لا يكفر، ونحن علينا أن نتبعه فيما أنزل علينا، وسمعنا وأطعنا، فنكفر من كفره، ونمتنع عن تكفير لم يكفره سبحانه، وحكم له بالإسلام أو بالإيمان، إذا التكفير لا بد أن يكون بنص شرعي، فهذي قضية مهمة جدا: التكفير حق لله، ولا يمكن إعماله وإطلاقه إلا بنص من صاحب الحق.

ثانيًا: الأصل في أهل القبلة الإسلام والتوحيد حتى يثبت خلاف ذلك، فمن ثبت إسلامه بيقين لم يخرج منه إلا بيقين، أو لا يخرج منه إلا بيقين، فمن صار مسلمًا بالنطق بالشهادتين فلا يجوز إخراجه من دائرة الإسلام إلا إذا جاء بكفر صريح بوحي، لنا فيه برهان من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، واليقين لا ينقضه الشك، والإسلام الصريح لا ينقضه الكفر المحتمل والكلام المتشابه.

قال الله -تعالى-: "وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا" [النساء: ٩٤]، لا تقولوا لمن أظهر الانقياد لدينكم ودعوتكم، وقال: لا إله إلا الله، أو سلم عليكم، فقال: السلام عليكم ورحمة الله لا تقولوا له: هذا تظاهر، ولست مؤمنًا في الباطن، وهذا مجرد ادعاء، بل اقبلوا ظاهره، وعاملوه بناء عليه، واحكموا له بالإسلام حتى يثبت العكس.

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كان رجل في غنيمة له -تصغير غنم- فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم، فقتلوه، وقالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا -يعني: لينجو من القتل- فظنوه مشركا، قال الكلمة فقط فرارا من القتل، فأخذوا غنيمته، فأنزل الله في ذلك: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" تلك الغنيمة عرض الحياة الدنيا" رواه البخاري [٤٥٩١].

ولما قال بعض المسلمين عن مالك ابن الدخشن وكان رجل بالمدينة مع المسلمين: ذلك منافق، فالنبي ﷺ قال: لا تقل ذلك، ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله. قال: الله ورسوله أعلم. فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين. فقال رسول الله ﷺ: "فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله"(البخاري ومسلم).

نأتي إلى حديث عظيم في هذا الباب حديث أسامة بن زيد، قال أسامة رضي الله عنه: "بعثنا رسول الله ﷺ إلى الحرقة -قوم-، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري، -الأنصاري هذه الكلمة أحدثت عنده امتناع، سمع كلمة التوحيد التي يحكم للرجل بها بالإسلام- فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبيﷺ فقال: يا أسامة أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله، فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا أتتك يوم القيامة، قلت: كان متعوذاً، يعني قالها خوفا من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم قالها متعوذاً،

فمازال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم"(البخاري ومسلم).

هذا التمني معناه أن أسامة من شدة الشعور بالذنب والإثم تمنى أن يكون إسلامه تأخر

 بعد الحادثة، لأن الإسلام يجب ما قبله. قال الحافظ بن حجر -رحمه الله-: "إظهار الإيمان

 يحصن من القتل، وكلهم أجمعوا على أن أحكام الدنيا على الظاهر، والله يتولى السرائر"

(فتح الباري: ١٢/٢٧٣).

فلما يسلم الكافر مهما بلغ في الإجرام لا يجوز أن يقال: بعد كل الجرائم تأتي تقل الشهادتين، هناك ناس ما عندهم قواعد أو حدود توقفهم، يشتغلون عواطف انفعاليون، جهل يقول: أنت بعدما قتلت من المسلمين تعلن الشهادتين. هل معنى ذلك أنه لو جاء مثلا من هؤلاء الأعداء ونطق بالشهادتين أنه نتركه تماما، لا، الحذر لأنه ممكن يكون هذا منافق، ممكن يكون جاء وقالها فعلا ليعصم دمه، ويستفيد من العصمة والحرمة، ثم يطعن المسلمين من الخلف؟  

 

إذا شخص أعماله الظاهرة سيئة، لو قال: والله أنا نيتي طيبة، نقول: نحن لنا الظاهر، نحاسبك على ما ظهر منك، وبناء عليه من أظهر الكفر عاملناه به، ومن أظهر الإيمان عاملناه به، والنبي ﷺ ما التفت إلى تعليل أسامة، أسامة قال: إنما قالها متعوذا، إنما قال خشية السيف، ما التفت ﷺ إلى هذا الكلام أبدا، رد عليه، وأنكر، وفي رواية: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم"(البخاري، ومسلم). وهذا مقتضى العدل، والله تعالى "يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ" [غافر: ١٩]، والعبرة بما في الظاهر من اللسان وعمل الجوارح، والسرائر والنوايا عند الله، حتى المنافقين النبي ﷺ حكم عليهم بظواهرهم. وقال شيخ الإسلام عن المنافقين: "فكان حكمه ﷺ في دمائهم وأموالهم كحكمه في دماء غيرهم، لا يستحل منها شيء إلا بأمر ظاهر" [كتاب الإيمان الكبير: ١ /١٥٢].

وقال الشاطبي: "إن أصل الحكم الظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصا، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموما، فإن سيد البشر مع إعلامه بالوحي يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم وإن علم بواطن أحوالهم" 

إذا الله تعالى أوحى إليه ببعض أسماء المنافقين، أوحى إليه هذا خبر ما فيه شك، ومع ذلك ما أخذهم وقتلهم، وقال: الله أوحى إلي أن أنتم فلان وفلان وفلان أنكم من المنافقين اقطعوا رقابهم، أنتم زنادقة تظهرون الإسلام وتبطنون الكفر، ما فعل ذلك كله نصرا لقاعدة، وبيانا لمبدأ إجراء الأحكام على الظواهر.

 وقد جاءت النصوص المتكاثرة الدالة على ثبوت الإسلام بالشهادتين، قوله ﷺ: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه، وماله، إلا بحقه وحسابه على الله"( البخاري ومسلم).

فإذا من قال: لا إله إلا الله حكم بإسلامه ما لم ينقضها بناقض بين، فعند ذلك يحكم بالكفر وردته، إذا توافرت الشروط وانتفت الموانع، توافرت الشروط وانتفت الموانع، والإسلام أمر سهل، يعني: ليس أمرا معقدا، الدخول في الدين أمر سهل، وعندما نقول: أصل الحكم بالإسلام مثلا لمن قال: لا إله إلا الله، إلا إذا أتى بناقض بين وكفر صريح، فالإسلام يثبت بالشهادتين، وبالصلاة، وبالتبعية للأبوين، وللدار، يعني: أنت الآن لو رأيت شخصا ما عندك عنه أي خلفية يصلي تحكم له بالإٍسلام، لو سمعت واحد نطق الشهادتين ما عندك عنه أي خلفية تحكم له بالإسلام، لو رأيت ابنًا لوالدين مسلمين ما عندك عنه أي خلفية تحكم له بالإسلام تبعا لوالديه، لو رأيت شخصًا في مجتمع مسلم الأصل أنه واحد منهم، "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا"(البخاري).

ثالثًا: من القواعد أحكام الكفر والإسلام تبنى على الظاهر، فنحن لنا الظاهر والله يتولى السرائر، فالمرء يحكم عليه بالكفر أو الإيمان بناء على ظاهره، فإن أظهر الكفر حكم عليه بالكفر، وإن أظهر الإيمان حكم عليه بالإيمان، فالأحكام مبناها على الظاهر، ولا يجوز الحكم على النوايا؛ لأنا لا نعلمها، أنا شققت عن قلبه، ما يعلم ما في القلوب إلا علام الغيوب، فلا يجوز الحكم على النوايا، والتكفير والتفسيق بالظنون بلا دليل ظاهر؛ فعن أنس رضي الله عنه  أن النبي ﷺ قال: "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته"(البخاري).

هذا دخل في حماية الشرع، خلص هذا الآن في جوار الله، في ذمة الله، لا تعتدوا عليه، لا تخفروا الله في ذمته، هذا ظاهره الإسلام، الاعتداء الآن عليه في دمه وماله يعتبر خفر ذمة الله، الله أعطاه حرمة أنت تنتهكها، فلا تخفروا الله في ذمته.

لاحظ هذه الأشياء الصلاة شيء ظاهر، واستقبل قبلتنا شيء ظاهر، وأكل ذبيحتنا شيء ظاهر، هذه ليست أشياء خفية، هذه أشياء ظاهرة بنى عليها حكما، قال: فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فواضح أن الأحكام في الشرع بناء على الظاهر: صلى صلاتنا، استقبل قبلتنا، أكل ذبيحتنا، أشياء ظاهرة، الشرع حكم بناء عليها، فلا يجوز أن تخفروا الله في ذمته، وتنتهك الحرمة التي أعطاها الله لهذا الإنسان.  قال الشافعي: "وإنما كلف العباد الحكم على الظاهر من القول والفعل، وتولى الله الثواب على السرائر دون خلقه" [الأم للشافعي:١ /٢٩٦]،وقال الحافظ بن حجر -رحمه الله-: "أمور الناس محمولة على الظاهر، فمن أظهر شعار الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك" [فتح الباري: ١ /٤٩٦].

نحن ما ندري مثلا الصلاة هو بيصلي بجانبك أنت لا تعرف هل له عشرها خمسها، سدسها، سبعها، ثلثها، نصفها؟ من الذي يعلم؟ الله تعالى يعلم حقيقة الخشوع في قلبه يعلم حضور ذهنه وشرود ذهنه، يعلم الإخلاص الذي عنده، من الذي يعلم خشيته لله في صلاته، ماذا يعتمل في نفسه من معاني الآيات والأذكار التي يقرأها، هذا أمر الله.

ولذلك الثواب لا دخل لنا فيه أبدا نحكم، فمن دخل هذا المدخل فأنه يعتدي على حقوق الله، لذلك هذه عبارة والله لا يغفر الله لك خطيرة، لأنه من الذي له حق المغفرة عند الله. قال الشافعي -رحمه الله-: "وأحكام الله ورسوله تدل على أن ليس لأحد أن يحكم على أحد إلا بظاهر، والظاهر ما أقر به، أو قامت به بينة تثبت عليه" [الأم: ٢٩٧]

رابعًا: لا يكفر أحد من أهل القبلة بكل ذنب وقع فيه ما لم يستحله إذ الذنوب لا يُكفّر بها أحدًا من أهل القبلة مالم يستحلها. فالأصل في المسلمِ الظاهرِ العدالةِ: بقاءُ إسلامِه، وبقاءُ عدالته حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي فلا يُصار إلى التكفير بمجرد الظن والهوى، فهو من أعظم القول على الله بلا علم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بالله مَا لَمْ يُنَـزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ"(الأعراف: ٣٣).

هذا الأصل هذا الظاهر إذا ما عندك شيء ناقل ينقل عن الأصل لابد أن تجري على الأصل، ولا بد أن تحكم بإسلامه، وتعامله على هذا الأساس، وتسلم عليه ...الخ، حتى يثبت العكس، هذا الكلام الذي نقوله قد يبدوا بدهيًا، لكن هناك للأسف الشديد من الفرق التي تنتسب للدين تقول: الأصل الكفر حتى يثبت الإٍسلام، ومنهم من ابتدع بدعة أخرى وقالوا: الأصل التوقف، أنا إذا دخلت مسجد ورأيت إمامًا يصلي أتوقف في أمره لا أحكم بإسلامه، ولا أحكم بكفره، وما أصلي وراه حتى يثبت لي أنه مسلم، وإذا سمعت واحدا يقول الشهادتين أتوقف لا أحكم بإسلامه ولا أحكم بكفره حتى يتبين لي هذا أو هذا، أنا إذا رأيت جزارًا يذبح ذبيحة في بلاد المسلمين ما أكل من ذبيحته حتى أتأكد أنه مسلم، هذه بدعة كبيرة، ومن تأمل في مترتباتها سيتبني عليها قضايا خطيرة، لا يجوز التوقف في إسلام المسلم، بل لا بد أن نحكم بإسلامه، ثم بعد ذلك يأتي بكفر صراح، يسب الله، يسب الرسول، يسب الدين، ينتقد الأحكام الشرعية، مثلاً أنا يعجبني الربا، التعدد ظلم، قطع اليد وحشية، إذا أتى بكفر صريح ذاك الوقت سنتخذ موقفًا أخر، لكن قبل هذا نحكم بإسلامه، لا نتوقف فضلا أن نحكم بكفره، أو نقول: الأصل في الناس الكفر حتى يثبت الإسلام، مثل هذا لو قال قائل: الأصل في الأشياء النجاسة حتى تثبت الطهارة، هذا الأصل أنه نجس حتى يثبت أنه طاهر، نغسله وبعدين ألمسه، هذا فعل المجانين، فعل الموسوسين.

فالحكم على إنسان ما بالكفر حكم شرعي، مضبوط بضوابط معلومة من الكتاب والسنة، فلا يُصار إليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة عليه بالكفر، فإنه من أعظم البغي أن يُشهد على معين أن الله لا يغفر له، ولا يرحمه، بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت، ولهذا ذكر أبو داود  في سننه في كتاب الأدب: "باب النهي عن البغي" وذكر فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدُهما يُذنب، والآخرُ مجتهدٌ في العبادة، فكان لا يزال المجتهدُ يرى الآخر على الذنب فيقول: أَقْصِر،  أي كُفَّ عن الذنب، وتوقف عن فعله] فوجده يومًا على ذنب فقال له: أَقْصِر، فقال: خلّني وربي، أَبُعِثْتَ عليّ رقيبًا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الجنة، فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالمًاً؟ أو كنت على ما في يدي قادراً؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار) قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته".

فلا يُتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله، ولا يُخرج إنسان من الإسلام بمجرد الفهم واستحسان العقل، فإن إخراج رجل من الإسلام أو إدخاله فيه أعظم أمور الدين، وما تنازع العلماء في كونه كفرًا، فالاحتياط للدين التوقف وعدم الإقدام ما لم يكن في المسألة نصّ صريح من الكتاب أو السنة، فإن استباحة دماء المصلين الموحدين خطر عظيم، والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم واحد". بل إنّ عقوبة الكافر المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه، منها: أن المرتد يقتل بكل حال، ولا يضرب عليه جزية، ولا تعتمد له ذمة، بخلاف الكافر الأصلي، ومنها: أنه يقتل وإن كان عاجزًا عن القتال، بخلاف الكافر الأصلي الذي ليس هو من أهل القتال، فإنه لا يقتل عند أكثر العلماء، ومنها: أن المرتد لا يُزوّج ولا تؤكل ذبيحته، بخلاف الكافر الأصلي، فهو -أي المرتد- شرّ من اليهود والنصارى.

ضوابط التكفير

إن تكفير المسلم وإخراجه عن الدين الإسلامي لا بد أن يخضع لعدة ضوابط وشروط، وهي:

التثبت من الكفر: ضرورة التثبت في إصدار هذا الحكم الشرعي، وأن لا يصدر إلّا عن بينة ويقين، وعن العلماء الملمين بالأدلة الشرعية. لأن من كان إسلامه ثابتتً بيقين، لا يحكم بكفره إلا بيقين. وذلك بناءً على القاعدة الموجودة في الفقه الإسلامي القائلة: (اليقين لايزول بالشك)؛ وقد حذر الشوكاني من التسرع في إصداره في قوله: (اعلم أنّ الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام، ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُقدم عليه إلّا ببرهان أوضح من شمس النهار).

العلم بالمكفرات.

العمد والقصد: أن ينطق بكلمة الكفر عامداً، وليس بالخطأ أو غفلة أو غيرها من حالات عدم القصد، ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ الله فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا"(الأحزاب/5).

الاختيار: بأن لا يكون مُكرَها أو مضطراً إلى الكفر قولاً أو فعلاً، بدليل قوله تعالى:﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ

مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ"(النحل/١٠٦) والتي نزلت في عمار بن ياسر عند تعذيب مشركي قريش له حتى أجبروه على قول كلمة الكفر.

إن التساهل في الحكم بالتكفير خروج عن منهج الله ولا نتيجة لهذا الخروج إلا الفرقة والشقاء واقتتال الإخوة وضعفهم وتسلط عدوهم عليهم، فالحكم على مسلم بالكفر بمثابة قتله، كما أخبرنا بذلك النبي ﷺ بقوله:"ومن رمى مؤمنًا بكفر فهو كقتله"(البخاري).

ولعل التكفير بلا دليل معتبر هو إحدى ملامح الخوارج البارزة والتي نتجت عن الجهل بأحكام الدين وقواعده ومقاصده وقد أخبر النبي ﷺ عن هؤلاء الخارجين عن الجادة بقوله (يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم"(متفق عليه).

وفي رواية:"يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ".

الخطبة الثانية 

الحمدلله والصلاة السلام علي رسول الله وبعد فياعباد الله 

قواعد وضوابط في التكفير

القاعدة الأولى: (لا نكفر إلا من كفره الله ورسوله)

فمن جاءت النصوص بكفره فهو كافر، ومن لم يكفره الله ورسوله فلا يكفَّر… وعلى هذا فأهل السنة لا يكفّرون من يكفرهم من غيرهم لمجرد أنّ الآخر قد كفرهم، لأن التكفير حكم شرعي ليس داخلًا في باب العقوبة بالمثل، فالتكفير حق الله، لذا لم يكفِّر الصحابة الخوارج مع أن الخوارج كفروا عليًّا رضي الله عنه ومن معه من الصحابة، فالمعوّل عليه في مسألة التكفير النص الصريح أو الإجماع أو القياس الجلي الصحيح على منصوص عليه" [فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة للغزالي (ص ١٢٨)].

القاعدة الثانية : (التفريق بين التكفير المطلق “الأوصاف” أو “تكفير الفعل” والتكفير المعين “الأشخاص” أو “تكفير الفاعل” ) وضوابط كل منهما، ولا يشترط في تكفير الأول سوى ثبوت كون الفعل كفراً. أما المعين فلا يكفر إلا بثبوت ضوابط التكفير وانتفاء موانعه.

تكفير الأوصاف يحتاج إلى دليل وتكفير المعين يحتاج إلى تحقيق مناط (اجتماع شروط وانتفاء موانع).

التفصيل في التكفير المطلق والتضييق في تكفير الأعيان فلا يطلب في ذلك الاستقصاء.

تكفير الأوصاف من اختصاص العلماء والفقهاء وتكفير الأشخاص من مسؤولية الأئمة والقضاة لا عامة الناس والوعاظ.

لا تلازم بين التكفير المطلق وتكفير المعين: ومثاله قول الإمام أحمد بكفر من قال بخلق القرآن، لكنه لم يكفّر أعيانهم مع أنه ناظر بعضهم، وذلك لعدم اجتماع الشروط وانتفاء الموانع، وهؤلاء لم يكذبوا النصوص وإنما أخطؤوا في فهمها وتأويلها، فقد كان الإمام أحمد يصلي خلف الخليفة الذي كان يمتحن الناس بهذه المسألة وكان يدعو الله له بالمغفرة.

القاعدة الثالثة: الفرق بين الكفر الأكبر والكفر الأصغر

ليس كل ما وردت النصوص بتسميته كفرًا أو شركًا فهو عمل مُكَفِّرٌ مخرج من الملة إذ إن بعض الأعمال ورد وصفها بذلك لمشابهتها أفعال الكفار أو باعتبار ما تؤدي إليه أو لأسباب أخرى،          ومن هنا قسم بعض العلماء الكفر إلى قسمين: كفر أكبر وهو المخرج من الملة، وكفر أصغر وضابطه: ما وردت النصوص بتسميته كفرًا أو شركًا، واتفق العلماء على أنه لا يخرج مرتكبه من الملة إلا بالاستحلال، ولبيان هذه القاعدة لا بد من الحديث عن عدة مسائل.

 إن هذا التقسيم الذي مر في الكفر يكون في الشرك والنفاق والظلم والفسق أيضًا، فمنها ما هو أصغر ومنها ما هو أكبر، وهذا التقسيم منه ما صرحت به النصوص ومنه ما هو مفهوم من قواعد تفسير النصوص، وقد جاء في الأحاديث ذكر الشرك الأصغر كما في قوله عليه الصلاة والسلام:"إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء"(أحمد والحاكم).

 وهذا النوع لا يخرج من الملة ولا ينفي عن صاحبه أصل الإسلام ولكن ينافي كماله لكونه من الكبائر، ولا يغفر لمرتكبه إلا بالتوبة ومن مات ولم يتب فهو تحت مشيئة الله تعالى إن شاء عاقبه أو غفر له.

مما يتفرع على هذه القاعدة عدم تكفير أهل القبلة بمطلق الذنوب أو بما وصف من الذنوب بالكفر أو الشرك إلا بجحود الأمر أو استحلال المحرّم، فقد أجمع الصحابة والتابعون ومن بعدهم على أن المعاصي من أمور الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، بوّب البخاري (باب المعاصي من أمر الجاهلية) وأورد حديث:"إنك امرؤ فيك جاهلية"(البخاري).

 عن المعرور بن سويد رضي الله عنه:وقد فرق القرآن بين الشرك وسائر المعاصي، وجاء في أحاديث الشفاعة حديث:"شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي"( أبو داود والترمذي، وابن ماجه).

google-playkhamsatmostaqltradent