
الحال أبلغ من المقال
من أسباب مقت الله وغضبه
حين يكون لسان المقال أبلَغُ من لسان الحال
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين أمابعدفياعباد الله
يقول الله تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ"(الصف/1-٢) .
من أسباب مقت الله وغضبه
عباد الله :" إن من أسباب مقت الله وغضبه علي العبد هو القول المخالف للفعل ..
إنها أزمة أخلاقية إيمانية، تهدد حركة التغيير… إنه مصاب عظيم وجلل يفقد المصداقية ويبخس الجدية؛ ولهذا حذر الله منه وبشدة، فقال سبحانه وتعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ "(الصف: 2-3).
لقد جعل الله هذه الحالة سبب مقت من الله والعياذ بالله، وهذا لخطورتها في المجتمع الإسلامي وتشويهها لصورة الأمثلة الحسنة والقدوات الناجحة التي يجب أن تكون قناديل تنير لجموع المسلمين الطريق. فعن أسامة بن زيد -رضِي الله عنه -قال: سمعتُ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم -يقول:"يُؤتَى بالرجل يومَ القيامة فيُلقَى في النار فتندَلِق أقتابُ بَطنِه، فيَدُور بها كما يَدُور الحمار في الرَّحَى، فيجتَمِع إليه أهلُ النار فيقولون: يا فلان، ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنتُ آمُر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه"(متفق عليه).
فحين يصبح الحديث مستهلكا يحدث به مرء بوجهين متناقضين، بشخصيتين مختلفتين فإنه مهما بلغ من معرفة وشهرة وقبول بين الناس، فإن ما يحمله من علم ينتهي إن بقي في حيز الكلام ولم يطبَّق، وسيندثر تماما إن خرج إلى حيّز التناقض والعكس.
فقد يبهر الناس طليق لسان، بذاكرة قوية، يحفظ النصوص ويحسن الطرح والربط والشرح، يتكلم فيؤثر ولكن كل هذا لا يُعتدُّ به أمام من يحدثك عن تجربته الناجحة وعن سلوكه المعروف به وعن حديث يطبقه قبل أن يتصدر لتبليغه، هذا الذي يحظى بالتقدير والإعجاب والاحترام بحق.
عباد الله :"
إذا ما اختلف القول والعمل فالمعتبر
والمقبول هو العمل، لأن دلالة العمل أقوى من دلالة القول. فرق بين من يقول ويعمل،
يقول: "سمعنا وأطعنا ". وبين من يقول ولا يعمل، يقول: " سمعنا وعصينا ".
واليهود تلقوا الأوامر فخالفوها، أمرهم موسى عليه السلام أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، فقالوا بألسنتهم: سمعنا وأطعنا، ولكنهم في مجال التنفيذ والالتزام عصوا وتمردوا، فرجح جانب فعلهم المخالف على جانب كلامهم الموافق، فقال تعالى: "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ"().
إن أغلب الذين اعتنقوا الإسلام في السنوات الأخيرة في البلاد الأجنبية، يشيرون إلى حقيقة ملموسة وفي غاية الأهمية وذلك عندما يسألون عن سبب تحوّلهم إلى هذا الدين الحنيف.
فقد اتّفق العديد منهم على إنهم احتكّوا أو شاهدوا أو عاشروا شخصاً أو مجموعة من المسلمين فتأثروا بأخلاقهم وما يحملون من مثل وقيم وخصال حميدة غير متوفّرة عند باقي الديانات.
وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على أن السلوك العملي والفعل الخارجي له الفضل الأكبر على اقتناع الآخرين بالمبادئ وجذبهم إليها..
فالنظريات والمبادئ على صحتها وتكامليتها قد لا تحفز الآخرين للأخذ بها ما لم تكن مصحوبة بواقع عملي ملموس يعطي صورة نقية عنها، فالقول لن يجدي حتى يتصل بالفعل، والشرف عند الله سبحانه بحسن الأعمال لا بحسن الأقوال، وإيقاع العمل أقوى وأشد تأثيراً على قلوب الآخرين.
ولعلّ ما نطق به المستبصرون أو أولئك الذين زينوا أعناقهم بوسام الإسلام يستحقّ منا التوقّف طويلاً عند هذه المسألة ومراجعة أوضاعنا بدقّة، فكلّ حركة نقوم بها وكل ممارسة نجريها هناك من يراقبها ويترصّدها بعناية فائقة، إنْ كانت حسنة جلبت الحسنات وأدخلت الآلاف في دين الإسلام، وإنْ كانت سيئة جرّت وراءها الخسائر والسيئات، ونفّرت نفوس العديد من طلاب الحقيقة..
وكما قال أمير المؤمنين (عليه السلام)
: «زيادة الفعل على القول أحسن فضيلة ونقص الفعل عن القول أقبح رذيلة» و«لسان الحال
أصدق من لسان المقال».
حين يكون لسان المقال أبلَغُ من لسان الحال
عباد الله:" لقد ابتليت أمتنا اليوم ببعدها عن تطبيق الشريعة الإسلامية وجهل أغلبها بعظمة هذا الدين وانبهار أبنائها بحضارة الغرب وركون الأكثرية للدعة والكسل، وغيره الكثير مما يؤخر رفع البلاء إن لم يكن العقاب، ويبعد النصر، ويبدد أحلام الصعود الحضاري الإسلامي من جديد، ولابد أن الدعوة لله والتذكرة والموعظة الحسنة وتكاتف الجهود لرفع درجة الوعي وعودة الأمة لأسباب الالتزام والتطبيق والعمل لخيري الدنيا والآخرة، حل لأغلب مشاكل الأمة إن أثمرت الجهود وتجاوب المسلمون وقاموا ينفضون عنهم غبار الخنوع والذلة والقعود.
إلا أن هذه السبيل التي سلكها الأنبياء والرسل ومن بعدهم الصحابة والتابعين ومن خلفهم من الصالحين، يهددها داء خطير ومرض مزمن ينقض الغَزْلَ ويفتك بالزرع ويهدم البنيان ويحبط الجهود ويعيدنا في دائرة الصفر والانهزامية والفشل والركون للأعداء، إنه داء التناقض بين الأقوال والأفعال، والذي إن انتشر وتفشى بين الدعاة والعلماء والعاملين لصحوة هذه الأمة والدفع بعجلة التغيير والتقدم والازدهار، إن حصل ذلك هدم كل ما تم بناؤه، وكسر قيد الثقة بين جموع الأمة وهذه الطبقة الحساسة في المجتمع؛ فضاعت القدوة وافتقد الناس الأمانة وأضحوا بلا بصيص أمل يندفعون إلى حفر الإحباط والفشل..
ظاهرة منتشرة
وقد انطبعت هذه الصورة اليوم في كل المستويات وعلى جميع الأصعدة، سواء عند الأفراد، أو الجماعات، أو الدول، أو الأمم، أو الحضارات، وهي مقياس يقيس عليه الناس النجاح والفشل، المصداقية والكذب، العقلانية والمبالغة، الإنصاف والإجحاف، العدل والجور، الحرية والأسر وكل خير وشر!
فما أقبح أن يكون الداعية والخطيب الذي يحاضر الناس في المروءة وحسن الخلق، أكثر الناس إذاية لأهل بيته، وأقلهم صبرًا على جيرانه، وأشهرهم سمعة بلا مروءته! وهذه قاصمة لمصداقية خطبه ومحاضراته.
نعم يحب المرء أن يظهر بتلك الصورة المثالية والقدوة المحترمة، ويسعى جاهدًا لبناء قاعدة ثقة في الأمة وبين أهل الشأن والأمر، ولكن هل هي حقيقة تلك الصورة التي يحملها هذا المرء أم أنه على عكسها التام وعلى النقيض المحبِط! هل هو بحق يؤمن بتلك المبادئ التي يحاضر عنها أم أنها مجرد كلمات لا تستحق الجهد والحرص لتحقيقها؟
النبي القدوة والأسوة
فهو القائل: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم
لأهلي".
حبا الله -تعالى- نبيه أكمل الأخلاق وأنبل الصفات، فكان
-عليه الصلاة والسلام- لزوجاته الزوج الحبيب، والموجه الناصح، والجليس المؤانس.
كان صلي الله عليه وسلم يمازح نساءه في السراء،
ويواسيهن في الضراء، كان يسمع شكواهن، ويكفكف دموعهن، لا يؤذيهن بلسانه، ولا يجرح
مشاعرهن بعباراته، يتحمل منهن الأذى وسلاطة القول، وما ضرب بيده امرأة قط، لا
يتصيد الأخطاء، ولا يتتبع العثرات، ولا يضخم الزلات ولا يديم العتاب، يتحمل
الهفوة، ويتغاضى عن الكبوة، قليل الملامة، كثير الشكر والعرفان.
ينظر إلى أحسن طباع المرأة، ويظهر حبه بهذا، ولا غرو في ذلك، فهو القائل:"لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إنْ كَرِهَ منها خُلُقًا رَضِيَ منها آخَرَ، أَوْ قالَ: غَيْرَهُ."(مسلم).
فالإيمانُ داعٍ لمكارِمِ الأخْلاقِ، فلا يَخلُو المُؤمِنُ
والمؤمِنةُ مِن خلُقٍ حسَنٍ؛ فالإيمانُ يَستلزِمُ وجودَ خِصالٍ مَحمودةٍ فيهما.
كان النبي صلى الله عليه وسلم لطيف المعشر مع نسائه وأهل بيته، فكان يكنِّي نساءه بأحب
الأسماء إليهن، فأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كان يتطلف لها، ويناديها بأحب
الأسماء إليها، فيقول لها: «يا عائش» وربما قال لها:"يا حميراء"فكانت تفرح بهذه
الألقاب، وبهذا التدليل، وهذا من هديه صلى الله عليه وسلم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم من علامات حُسن خُلُقه مع
نسائه، كان يسمح لهم ببعض الترفيه المباح، فثبت في السُّنَّة النبوية أن عائشة رضي
الله عنها رأت الحبشة وهم يلعبون في المسجد، فكانت تختبئ خلْف ظهْر النبي صلى الله
عليه وسلم، وتنظر إلى الحبشة وهم يرقصون في المسجد، فكان النبي صلى الله عليه وسلم
يقول لها: «أشبعتِ؟ أفرغتِ يا عائشة؟»، فكانت تنظر وتفرح.
هـذا الـحبيـب الذي في مدحه شرفٌ ***
وذكُرُهُ طيب في مسمعـي وفـمـي
هذا أبو القـاسـم المـخـتـار من مُضَر ***
هــذا أجـــلُّ عـبـــاد اللـه كـلــهـــمِ
هذا هو المصطفى أزكى الورى خلقًا ***
سبحان مَن خصَّهُ بالفضل والكرمِ
هذا الذي لا يصح الفرض من أحـــد *** ولا الأذان بـلا ذكـرِ اسـمِـهِ الـعَـلَـمِ
الحمدلله والصلاة والسلام علي رسول الله وبعد
فياعباد الله:"
لازلنا نواصل الحديث حول لسان الحال أبلغ من لسان المقال
كيف يمكن لامرئ في مقام النصح أو الأمر أن ينهى عن الشر وربما نزه نفسه عنه، وهو غارق فيه أو متلوث ومتصف به! قال تعالى:"أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ"(البقرة: 44).
وقال نبي الله شعيب عليه السلام لقومه:"وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ"(هود: 88).
ثغر وجب التنبه له
إن هذا الثغر الذي يتسلل منه سيل الإحباط الجارف ويستعين به الأعداء لتقييد أمتنا واستسلامها التام هو الذي يجب أن نتصدى له، إن كنا ركبنا موجة التغيير وأردنا لأمتنا الخير؛ فلنرقب تصرفاتنا وسلوكياتنا، وكذلك أفعالنا قبل كلماتنا، فمهما نمَّقنا الكلم وزيّناه وحبكناه ليطرق القلوب فلن يساوي شيئًا إن لم يكن حقيقة وواقعًا معاشا على الأرض، لن يعدو كونه حبرًا على ورق إن لم يصبح مبادئ نناضل لأجلها ونرسخها في سيرتنا ويعرفنا الناس بها فعلًا أكيدًا لا قولًا سديدًا فقط، قال الشيخ السعدي رحمه الله :"النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة ".
وقد تفرس من سبق في هذا الأمر وسارع بخشية لمداواته وكذلك كان أمير المؤمنين عمر-رضِي الله عنه-إذا نهى الناسَ عن شيءٍ جمَع أهلَ بيته فقال:"إنِّي نهيتُ الناس عن كذا وكذا، وإنَّ الناس يَنظُرون إليكم كما يَنظُر الطَّير إلى اللحم، وايمُ الله، لا أجد أحدًا منكم فعَلَه إلاَّ أضعَفتُ له العقوبة ضعفين".
عن أنسٍ -رضِي الله عنه -قال: قال رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم-:"أتيتُ ليلةَ أُسرِي بي على قومٍ تُقرَض شِفاهُهم بِمَقارِيض من نارٍ، كلَّما قُرِضَتْ وَفَتْ، فقلتُ: يا جبريل، مَن هؤلاء؟ قال: خُطَباء أمَّتك الذين يقولون ما لا يفعَلُون، ويقرَؤُون كتابَ الله ولا يعمَلُون به"(البيهقي).
أين الخطر؟
في الواقع حين يكون المرض قد أصاب هذه الشريحة المؤثرة في الأمة يكون التشخيص مخيفًا ويعكس حقيقة مُرة أخرى: وهي أن المنابر يعتليها من ليس أهلًا لها، وأن الأمانة يبلِّغها من لا يحفظ لها حقها، وأن التسابق على الظهور والشهرة أصبح أكبر إنجاز، وأن النجاح محصور في ثناء مخدوع من الناس! وأن التحايل والدهاء في هكذا مواقف يعد طريقًا مختصرة للفوز بلقب الداعية والعلامة والمثال الناجح المبجل بين القوم!
وما يزيد الطين بللًا أن المصاب بهذا الداء لا يشعر به، بل يدفع عنه الغرور والعجب بالنفس والكبر أي فرصة لليقظة والتدارك والتوبة لله والمحاسبة للنفس والحزم معها، مما يجعل في نظره النصيحة حسدًا، والتنبيه حقدًا، والتذكرة غيرة، والدعوة لله نفاقًا، بل وقد يصل الأمر أن يسقط في التبرير بالكذب ومداراة الخطأ بخطأ أكبر منه، والدخول في حلبة دفاع عن نفسه بوصفها الحكمة والخيار الحسن!!
وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى *** طَبِيبٌ يُدَاوِي النَّاسَ وَهْوَ عَلِيلُ
فأيها الناس، إن التحايل لا يبني مجدًا، وإن بنى هالة إعجاب يومًا! فإنها فقاعة ستختفي مع أول وكزة صدق وامتحان على أرض الفعل وميدان العمل!
فاحرصوا على متانة أساس البنيان قبل الحرص على جمال مظهره الخارجي، ومن بنى بنيانه على شفا جرف هار، انهار به ومن أسسه على تقوى من الله وخشية كان له بحسب نيّته فيه… لنتقن واجب حمل الأمانة وتبليغ الرسالة، لننصح لله بجديّة ولندعُ لله بجوارحنا قبل ألسنتنا… حتى نستمتع جميعًا بثمار الصدق مع الله ونحقق التغيير الذي تنشده أمتنا، ومن فرد إلى جماعة إلى أمة إلى حضارة إلى مستقبل نفخر به ويكون لنا حجة.