
فضل من مات غريباً في غير بلده
الحمد لله
والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلاشك أن المؤمن الذي يموت في غير موطنه غريباً له فضل عظيم وبخاصة إذا كان يجاهد في
سبيل الله دفاعاً عن الأرض والعرض ويكافح من أجل لقمة العيش كي يأكل حلالاً ولايضع في بطنة
لقمة سحت ف"كل جسم نبت من سحت فالنار أولي به"
قال تعالي:" وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"(التوبة/121).
قال
السعدي:" ومن ذلك هذه الأعمال، إذا أخلصوا فيها للّه، ونصحوا فيها، ففي هذه الآيات
أشد ترغيب وتشويق للنفوس إلى الخروج إلى الجهاد في سبيل اللّه، والاحتساب لما يصيبهم
فيه من المشقات، وأن ذلك لهم رفعة درجات، وأن الآثار المترتبة على عمل العبد له فيها
أجر كبير"(تفسير السعدي).
وروى ابن
أبي حاتم في تفسيره عن قتادة في قوله تعالى:"وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ
لَهُمْ... أنه قال: ما ازداد قوم في سبيل الله بعداً من أهليهم إلا ازدادوا قرباً من
الله".
روى أبو داود عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لقد تركتم بالمدينة أقواما
ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه . قالوا : يا رسول الله ،
وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة . ؟ قال : حبسهم العذر"(أبوداود).
وروي مسلم من حديث جابر قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال : إن
بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم المرض"(مسلم).
فأعطى صلى الله عليه وسلم للمعذور من الأجر مثل ما أعطى للقوي العامل .
وقد قال بعض الناس : إنما يكون الأجر للمعذور غير مضاعف ، ويضاعف للعامل المباشر .
قال ابن العربي : وهذا تحكم على الله تعالى وتضييق لسعة رحمته ،
وقال البعض: إنهم يعطون الثواب مضاعفاً قطعاً ، ونحن لا نقطع بالتضعيف في موضع فإنه مبني
على مقدار النيات ، وهذا أمر مغيب ، والذي
يقطع به أن هناك تضعيفا وربك أعلم بمن يستحقه .
وقد وردت بعض الأحاديث التي تدل علي فضل من مات غريباً بعضها صحيح والأخر ضعيف
ويقوي بغيره.
إذا مات الإنسانُ في غير مولدِه، قِيس له في الجنَّة من مولدِه إلى منقطع أثره"
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضلاً كبيراً في الذي يموت في غير وطنه عريباً وحيداً فريداً
عن عبد الله بن عمرو قال: "مات رجل بالمدينة ممن ولد بها، فصلى عليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم ثم قال: "يا ليته مات بغير مولده. قالوا: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: إن الرجل إذا مات
بغير مولده قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة"( ابن ماجه النسائي وحسنه الألباني)..
وأخرج ابن منده عن ابن مسعود
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يفسح للغريب في قبره، كبعده
عن أهله"
وأخرج أحمد والنسائي وابن ماجه عن ابن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الرجل إذا توفي في غير مولده قيس له من مولده إلى منقطع أثره "(والحديث حسن من كتاب بشرى الكئيب بلقاء الحبيب للسيوطي بتحقيق مشهور حسن)
وهذا لأن
الغريب عن الوطن قلبه دائما فيه حنين لأهله ووطنه، رقيق القلب، سخي العين،
قال الشافعي
عنه:
إن الغريب
له مخافة سارق ... وخضوع مديون وذلة موثق
فإذا تذكـــر
أهلــــه وبلاده ... ففؤاده كجناح الطــير خافـــق
وكان السلف
يحثون على الاغتراب خاصة إذا كان الاغتراب من أجل حفظ الدين والتفقه فيه والدعوة إلى
الله
قال الشافعي:
تغرب عن
الأوطان في طلب العلا ***وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريـج هم واكتساب معيشــــة ***وعلـــم وآداب وصحبــــة ماجـــد
التوفيق بين فضل من مات بالمدينة وبين من مات غريباً
توجد أحداديث عن فضل الموت بالمدينة المنورة والدعاء أن يموت الإنسان ويدفن بالبقيع وأحاديث تبين فضل من مات غريباً عن وطنه فكيف نوفق بين هذه الأحاديث ؟
فعن ابن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بالمدينة فإني أشفع لمن مات بها" (صحيح ابن حبان).
وفي رواية قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "مَنْ
اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا، فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ
يَمُوتُ بِهَا "(الترمذي).
وروي عَن
ابْنِ مَسْعُود قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم :"يفسح للغريب
فِي قَبره كبعده عَن أَهله" و(أخرجه أَبُو الْقَاسِم بن مَنْدَه والديلمي في
"الفردوس بمأثور الخطاب" (9008) ، بدون إسناد ، والسيوطي في "شرح الصدور"
(ص153).
ووجه الجمع
بينه وبين الأحاديث التي فيها فضل الموت بالمدينة : أن يحمل الحديث على من مات بالمدينة
أيضا ، ممن كان غريباً عنها ودعا الله أن يدفن بالبقيع ، فهذا له فضيلة ، لأجل غربته ، أو هِجْرته ، على من ولد
بها ، ومات فيها .
وقال الإمام
أبو الحسن السندي رحمه الله :
"قوله: "يا ليته مات في غير مولده " لعله صلى الله عليه وسلم لم يرد بذلك: يا ليته مات بغير المدينة ، بل أراد: يا ليته كان غريباً ، مهاجراًإلى المدينة ، ومات بها . فإن الموت في غير مولده – فيمن مات بالمدينة - : كما يُتصور بأن يولد في المدينة ، ويموت في غيرها ، كذلك يتصور بأن يولد في غير المدينة ، ويموت بها ؛ فليكن التمين راجعا إلى هذا الشق ، حتى لا يخالف الحديثُ حديثَ فضل الموت بالمدينة المنورة". انتهى، من "حاشية السندي على مسند أحمد" (2/253-254). وينظر أيضا : "حاشية السندي على ابن ماجه" (1/491).
موت الغريب شهادة
جاءت أحاديث تفيد بأن من مات غريبا، مات شهيدا ، منها عن عكرمة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَوْتُ الْغَرِيبِ شَهَادَةٌ" .وقد رواه أيضا إبراهيم بن بكر هذا عن عمر بن ذر
عن عكرمة عن ابن عباس ، كما عند أبي نعيم في "حلية الأولياء" (5/119) .
أخرجه الطبراني
في "المعجم الكبير" (11/57) ، وابن عساكر في "تعزية المسلم"
(79) ، من طريق عَمْرُو بْن الْحُصَيْنِ الْعُقَيْلِيُّ ، قال ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللهِ بْنِ عُلَاثَةَ ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ
، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: مَوْتُ الْغَرِيبِ شَهَادَةٌ إِذَا احْتُضِرَ ، فَرَمَى بِبَصَرِهِ عَنْ يَمِينِهِ
وَعَنْ يَسَارِهِ ، فَلَمْ يَرَ إِلَّا غَرِيبًا ، وَذَكَرَ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ ،
وَتَنَفَّس؛َ فَلَهُ بِكُلِّ نَفَسٍ يَتَنَفَسُّهُ: يَمْحُو اللهُ أَلْفَيْ أَلْفِ
سَيِّئَةٍ ، وَيَكْتُبُ لَهُ أَلْفَيْ أَلْفِ حَسَنَةٍ " .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَوْتُ الْغَرِيبِ شَهَادَةٌ"( البيهقي في "شعب الإيمان).
و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ مَاتَ غَرِيبًا مَاتَ شَهِيدًا ، وَوُقِيَ فَتَّانَيِ الْقَبْرِ ، وَغُدِيَ وَرِيحَ عَلَيْهِ بِرِزْقِهِ مِنَ الْجَنَّةِ"(أبو نعيم في "حلية الأولياء" (8/203) .
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ مَاتَ غَرِيبًا أَوْ غَرِيقًا مَاتَ شَهِيدًا" .
الغريب يفسح له في قبره ويقي فتنة القبر
وروي عَن ابْنِ مَسْعُود قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم :"يفسح للغريب فِي قَبره كبعده عَن أَهله" (أخرجه أَبُو الْقَاسِم بن مَنْدَه والديلمي في "الفردوس بمأثور الخطاب" (9008) ، بدون إسناد ، والسيوطي في "شرح الصدور" (ص153).
و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ مَاتَ غَرِيبًا مَاتَ شَهِيدًا ، وَوُقِيَ فَتَّانَيِ الْقَبْرِ ، وَغُدِيَ وَرِيحَ عَلَيْهِ بِرِزْقِهِ مِنَ الْجَنَّةِ"(أبو نعيم في "حلية الأولياء" (8/203) .
الغريب كتب له الموت في هذا المكان فلن يخلفه
نعم لامحالة سيموت الإنسان في مكان موته وهذا علم استأثر الله عزوجل به وهو من المغيبات الخمس كما قال ابن مسعود رضي الله عنه :" كل شيء أوتي نبيكم غير خمس ثم تلي قوله تعالي:" إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (لقمان/34).(أحمد).
قال ابن كثير :" "وما تدري نفس بأي أرض تموت" أي ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض، أفي بحر أم بر، أو سهل أو جبل. وقد جاء في الحديث:"إذا أراد اللّه قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة"(الطبراني في المعجم الكبير"". وروي مثله عن ابن مسعود، وبمعناه عن أسامة.(تفسير ابن كثير).
وعن أبي عزَّة - يسار بن عبيد - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"إذا قضى الله لعبدٍ أن يموت بأرض، جعل له إليها حاجة - أو قال: بها حاجة"(الترمذي).
حكاية عن وفاة الغريب
حكى أنه
كان في بني إسرائيل رجل فاسق وكان لا يمتنع عن الفسق حتى ضج أهل بلده وعجزوا عن منعه
عن فسقه فتضرعوا إلى الله تعالى فأوحى الله تعالى إلى موسى ـ عليه السلام ـ أن بني
في بني إسرائيل شاباً فاسقا فأخرجه من بلدهم حتى لا تقع عليهم النار بسبب فسقه فجاء
موسى عليه السلام فأخرجه فذهب الشاب إلى قرية من القرى
فأمر الله
موسى أن يخرجه من تلك القرية فأخرجه موسى عليه السلام
فخرج إلى
مفازة ليس فيها خلق ولا زرع ولا وحوش ولا طيور فمرض في تلك المفازة وليس عنده معين
يعينه فوقع على التراب و وضع رأسه عليه وقال لو كانت والدتي عند رأسي لرحمتني ولبكت
على مذلتي ولو كان والدي حاضرا لأعانني وتولى أمري, ولو كانت زوجتي حاضرة لبكت على
فراقي ولو كان أولادي حاضرين عندي لبكوا خلف جنازتي ولقالوا اللهم اغفر لوالدنا الغريب
الضعيف العاصي الفاسق المطرود من بلده إلى قرية ومن القرية إلى مفازة ومن المفازة يخرج
من الدنيا إلى الآخرة آيساً من كل الأشياء
إلهي قطعتني
عن والدي وأولادي وزوجتي فلا تقطعني من رحمتك فإنك أحرقت قلبي بفراقهم فلا تحرقني بنارك
لأجل معصيتي
فأرسل الله
تعالى له حوراء على صفة أمه وحوراء على صفة زوجته وغلماناً على صفة أولاده وملكاً على
صفة والده فجلسوا عنده وبكوا عليه فقال إن هذا والدي و والدتي وزوجتي وأولادي حضروا
عندي وطاب قلبه ووصل إلى رحمة الله تعالى طاهراً مغفوراً له
فأوحى الله
تعالى إلى موسى ـ عليه السلام ـ إذهب إلى مفازة كذا وموضع كذا فإنه مات ولي من الأولياء
فأحضره وتولى أمره وواره فلما حضر موسى ـ عليه السلام ـ ذلك الموضع رأى الشاب الذي
كان أخرجه من البلد ومن القرية بأمر الله تعالى ورأى الحور العين حواليه فقال موسىـ
عليه السلام ـ يارب أما هذا الشاب الذي أخرجته من البلد ومن القرية بأمرك ؟
فقال الله
تعالى ياموسى إني رحمته وتجاوزت عنه بأنينه في موضعه وفراقه وطنه و والدته و والده
وأولاده وزوجته
وأرسلت
إليه حوراء على صفة والدته وملكاً على صفة والده وحوراء على صفة زوجته يترحمون على
مذلته
في غربته
فإنه إذا مات الغريب بكى عليه أهل السماوات والأرض رحمة له فكيف لا أرحمه؟؟
وأنا أرحم
الراحمين ؟
لَيْسَ
الغَريبُ غَريبَ الشَّامِ واليمنِ
إِنَّ الغَريبَ
غَريبُ اللَّحدِ والكَفَنِ
إِنَّ الغَريِبَ
لَهُ حَقٌّ لِغُرْبَتهِ
على الْمُقيمينَ
في الأَوطانِ والسَّكَنِ
لا تَنْهَرَنَّ
غَريبًا حَالَ غُربتهِ
الدَّهْرُ
يَنْهَرَهُ بالذُّلِ والمِحنِ
سَفْرِي بَعيدٌ وَزادي لَنْ يبلغني
وَقُوَتي ضَعُفَتْ والموتُ يَطلُبُني
وَلي بَقايا
ذُنوبٍ لَسْتُ أَعْلَمُها
الله يَعْلَمُها
في السِّرِ والعَلَنِ
ما أَحْلَمَ
اللهَ عَني حَيْثُ أَمْهَلَني
وقَدْ تَمادَيْتُ
في ذَنْبي ويَسْتُرُنِي
تَمُرُّ
ساعاتُ أَيّامي بِلا نَدَمٍ
ولا بُكاءٍ
وَلاخَوْفٍ ولا حزَنِ
أَنَا الَّذِي
أُغْلِقُ الأَبْوابَ مُجْتَهِدًا
عَلى المعاصِي
وَعَيْنُ اللهِ تَنْظُرُني
يَا زَلَّةً
كُتِبَتْ في غَفْلَةٍ ذَهَبَتْ
يا حَسْرَةً
بَقِيَتْ في القَلبِ تُحْرِقُني
دَعْني
أَنُوحُ عَلى نَفْسي وَأَنْدُبُها
وَأَقْطَعُ
الدَّهْرَ بِالتَّذْكِيرِ وَالحَزَنِ
دَعْ عَنْكَ
عَذْلِيَ يَا مَنْ كانَ يَعْذُلُني
لَوْ كُنْتَ
تَعْلَمُ ما بِي كُنْتَ تَعْذِرُنِي
دَعْنِي
أَسُحُّ دُموعًا لا انْقِطاعَ لَها
فَهَلْ
عَسَى عَبْرَةٌ مِنْهَا تُخَلِّصُني
كَأَنَّنِي
بَينَ جل الأَهلِ مُنطَرِحًا
عَلى الفِراشِ
وَأَيْديهِمْ تُقَلِّبُني
وَقَدْ
تَجَمَّعَ حَوْلي مَنْ يَنوحُ ومَنْ
يَبْكي
عَلَيَّ و يَنْعاني ويَنْدُبُني
وَقَدْ
أَتَوْا بِطَبيبٍ كَيْ يُعالِجَني
وَلَمْ
أَرَ الطِّبَّ هذا اليومَ يَنْفَعُني
واشَتد
نَزْعِي وَصَار المَوتُ يَجْذِبُها
مِن كُلِّ
عِرْقٍ بِلا رِفقٍ ولا هَوَنِ
واستَخْرَجَ
الرُّوحَ مِني في تَغَرْغُرِها
وصارَ رِيقي
مَريرًا حِينَ غَرْغَرَني
وَغَمَّضُوني
وَراحَ الكُلُّ وانْصَرَفوا
بَعْدَ
الإِياسِ وَجَدُّوا في شِرَا الكَفَنِ
وَقامَ
مَنْ كانَ حِبُّ النّاسِ في عَجَلٍ
نَحْوَ
المُغَسِّلِ يَأْتيني يُغَسِّلُني
وَقالَ
يا قَوْمِ نَبْغِي غاسِلًا حَذِقًا
حُرًا أَديبًا
أَريبًا عَارِفًا فَطِنِ
فَجاءَني
رَجُلٌ مِنْهُمْ فَجَرَّدَني
مِنَ الثِّيابِ
وَأَعْرَاني وأَفْرَدَني
وَأَوْدَعوني
عَلى الأَلْواحِ مُنْطَرِحًا
وَصارَ
فَوْقي خَرِيرُ الماءِ يُنْظِفُني
وَأَسْكَبَ
الماءَ مِنْ فَوقي وَغَسَّلَني
غُسْلًا
ثَلاثًا وَنَادَى القَوْمَ بِالكَفَنِ
وَأَلْبَسُوني ثِيابًا لا كِمام لها
وَصارَ زَادي حَنُوطِي حينَ حَنَّطَني
وأَخْرَجوني
مِنَ الدُّنيا فَوا أَسَفًا
عَلى رَحِيلٍ
بِلا زادٍ يُبَلِّغُني
وَحَمَّلوني
على الأْكتافِ أَربَعَةٌ
مِنَ الرِّجالِ
وَخَلْفِي مَنْ يُشَيِّعُني
وَقَدَّموني
إِلى المحرابِ وانصَرَفوا
خَلْفَ
الإِمامِ فَصَلَّى ثُمَّ وَدَّعَني
صَلَّوْا
عَلَيَّ صَلاةً لا رُكوعَ لها
ولا سُجودَ
لَعَلَّ اللهَ يَرْحَمُني
وَأَنْزَلوني
إلى قَبري على مَهَلٍ
وَقَدَّمُوا
واحِدًا مِنهم يُلَحِّدُني
وَكَشَّفَ
الثّوْبَ عَن وَجْهي لِيَنْظُرَني
وَأَسْكب
الدَّمْعَ مِنْ عَيْنيهِ أَغْرَقَني
فَقامَ
مُحتَرِمًا بِالعَزْمِ مُشْتَمِلًا
وَصَفَّفَ
اللَّبْنَ مِنْ فَوْقِي وفارَقَني
وقَالَ
هُلُّوا عليه التُّرْبَ واغْتَنِموا
حُسْنَ
الثَّوابِ مِنَ الرَّحمنِ ذِي المِنَنِ
في ظُلْمَةِ القبرِ لا أُمٌّ هناك ولا
أَبٌ شَفيقٌ ولا أَخٌ يُؤَنِّسُني
فَرِيدٌ
وَحِيدُ القبرِ، يا أَسَفًا
عَلى الفِراقِ
بِلا عَمَلٍ يُزَوِّدُني
وَهالَني
صُورَةً في العينِ إِذْ نَظَرَتْ
مِنْ هَوْلِ
مَطْلَعِ ما قَدْ كان أَدهَشَني
مِنْ مُنكَرٍ
ونكيرٍ ما أَقولُ لهم
قَدْ هالَني
أَمْرُهُمْ جِدًا فَأَفْزَعَني
وَأَقْعَدوني
وَجَدُّوا في سُؤالِهمُ
مَالِي
سِوَاكَ إِلهي مَنْ يُخَلِّصُنِي
فَامْنُنْ
عَلَيَّ بِعَفْوٍ مِنك يا أَمَلي
فَإِنَّني
مُوثَقٌ بِالذَّنْبِ مُرْتَهنِ
تَقاسمَ
الأهْلُ مالي بعدما انْصَرَفُوا
وَصَارَ
وِزْرِي عَلى ظَهْرِي فَأَثْقَلَني
واستَبْدَلَتْ
زَوجَتي بَعْلًا لها بَدَلي
وَحَكَّمَتْهُ
على الأَمْوَالِ والسَّكَنِ
وَصَيَّرَتْ
وَلَدي عَبْدًا لِيَخْدُمَه
وَصَارَ
مَالي لهم حلًا بِلا ثَمَنِ
فَلا تَغُرَّنَّكَ
الدُّنْيا وَزِينَتُها
وانْظُرْ
إلى فِعْلِها بالأَهْلِ والوَطَنِ
وانْظُرْ
إِلى مَنْ حَوَى الدُّنْيا بِأَجْمَعِها
هَلْ رَاحَ
مِنْها بِغَيْرِ الحَنْطِ والكَفَنِ
خُذِ القَناعَةَ
مِنْ دُنْيَاك وارْضَ بِها
لَوْ لم
يَكُنْ لَكَ إِلا رَاحَةُ البَدَنِ
يَا زَارِعَ
الخَيْرِ تحصُدْ بَعْدَهُ ثَمَرًا
يَا زَارِعَ
الشَّرِّ مَوْقُوفٌ عَلَى الوَهَنِ
يا نَفْسُ
كُفِّي عَنِ العِصْيانِ واكْتَسِبِي
فِعْلًا
جميلًا لَعَلَّ اللهَ يَرحَمُني
يَا نَفْسُ
وَيْحَكِ تُوبي واعمَلِي حَسَنًا
عَسى تُجازَيْنَ
بَعْدَ المَوتِ بِالحَسَنِ
والحمدُ
لله مُمسينَا وَمُصْبِحِنَا
مَا وَضَّأ
البَرْقُ في شَّامٍ وفي يَمَنِ
ثمَّ الصلاةُ
على الْمُختارِ سَيِّدِنا
بِالخَيْرِ
والعَفْوْ والإِحْسانِ وَالمِنَنِ
وصلي اللهم علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم